رفع عيسى عليه السلام إلى السماء

فى حفظ الرب وبيان كذب اليهود والنصارى فى دعوى الصلب

قال الله تعالى: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين إذ قال الله يا عيسى إنى متوفيك ورافعك إلىَّ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلىَّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون}، وقال تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفى شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزًا حكيمًا وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا}، فأخبر تعالى أنه رفعه إلى السماء بعدما توفاه بالنوم، على الصحيح المقطوع به، وخلصه ممن كان أراد أذيته من اليهود، الذين وشوا به إلى بعض الملوك الكفرة فى ذلك الزمان.

قال الحسن البصرى ومحمد بن إسحاق: كان اسمه داود بن نورا، فأمر بقتله وصلبه، فحصروه فى دار ببيت المقدس، وذلك عشية الجمعة، ليلة السبت، فلما حان وقت دخولهم ألقى شبهه على بعض أصحابه الحاضرين عنده ورفع عيسى من روزنة ذلك البيت إلى السماء وأهل البيت ينظرون، ودخل الشرط فوجدوا ذلك الشاب الذى ألقى عليه شبهه، فأخذوه ظانين أنه عيسى فصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه إهانة له، وسلم لليهود عامة النصارى الذين لم يشاهدوا ما كان من أمر عيسى أنه صلب وضلوا بسبب ذلك ضلالاً مبينًا كثيرًا فاحشًا بعيدًا.

وأخبر تعالى بقوله: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته}، أى بعد نزوله إلى الأرض فى آخر الزمان قبل قيام الساعة، فإنه ينزل ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام، كما بينا ذلك بما ورد فيه من الأحاديث عند تفسير هذه الآية الكريمة من سورة النساء، وكما سنورد ذلك مستقصى فى كتاب الفتن والملاحم عند أخبار المسيح الدجال، فنذكر ما ورد فى نزول المسيح المهدى عليه السلام من ذى الجلال لقتل المسيح الدجال الكذاب الداعى إلى الضلال، وهذا ذكر ما ورد فى الآثار فى صفة رفعه إلى السماء.

قال ابن أبى حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء، خرج على أصحابه وفى البيت اثنا عشر رجلاً منهم من الحواريين، يعنى فخرج عليهم من عين فى البيت ورأسه يقطر ماء، فقال: إن منكم من يكفر بى اثنى عشرة مرة بعد أن آمن بى، ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهى فيقتل مكانى فيكون معى فى درجتى؟ فقام شاب من أحدثهم سنًا، فقال له: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب، فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب، فقال: أنا، فقال: أنت، هو ذاك، فألقى عليه شبه عيسى ورفع عيسى من روزنة فى البيت إلى السماء.

قال: وجاء الطلب من اليهود، فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه، فكفر به بعضهم اثنى عشرة مرة بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاثة فرق، فقالت طائفة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء اليعقوبية، وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية، وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء المسلمون، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسًا حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم .

قال ابن عباس: وذلك قوله تعالى: {فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين}، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس على شرط مسلم. ورواه النسائى، عن أبى كريب، عن أبى معاوية به نحوه. ورواه ابن جرير، عن مسلم بن جنادة، عن أبى معاوية، وهكذا ذكر غير واحد من السلف وممن ذكر ذلك مطولاً محمد بن إسحاق بن يسار، قال: وجعل عيسى عليه السلام يدعو الله عز وجل أن يؤخر أجله، يعنى ليبلغ الرسالة ويكمل الدعوة ويكثر الناس الدخول فى دين الله.

قيل: وكان عنده من الحواريين اثنى عشر رجلاً: بطرس، ويعقوب بن زبدا، ويحنس أخو يعقوب، واندراوس، وفليبس، وإبرثلما، ومتى، وتوماس، ويعقوب بن حلقيا، وتداوس، وفتاتيا، ويودس كريا يوطا. وهذا هو الذى دل اليهود على عيسى. قال ابن إسحاق: وكان فيهم رجل آخر اسمه سرجس، كتمته النصارى وهو الذى ألقى شبه المسيح عليه فصلب عنه. قال: وبعض النصارى يزعم أن الذى صلب عن المسيح وألقى عليه شبهه هو: يودس بن كريا يوطا، والله أعلم.

وقال الضحاك، عن ابن عباس: استخلف عيسى شمعون، وقتلت اليهود يودس الذى ألقى عليه الشبه. وقال أحمد بن مروان: حدثنا محمد بن الجهم، قال: سمعت الفراء يقول فى قوله: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين} قال: إن عيسى غاب عن خالته زمانًا فأتاها، فقام رأس الجالوت اليهودى فضرب على عيسى حتى اجتمعوا على باب داره فكسروا الباب ودخل رأس جالوت ليأخذ عيسى، فطمس الله عينيه عن عيسى، ثم خرج إلى أصحابه فقال: لم أره ومعه سيف مسلول، فقالوا: أنت عيسى، وألقى الله شبه عيسى عليه فأخذوه فقتلوه وصلبوه، فقال جل ذكره: {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم}.

وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب القمى، عن هارون بن عنترة، عن وهب بن منبه، قال: أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحوارين فى بيت فأحاطوا بهم، فلما دخلوا عليهم صورهم الله كلهم على صورة عيسى، فقالوا لهم: سحرتمونا، لتبرزن إلينا عيسى أو لنقتلنكم جميعًا، فقال عيسى لأصحابه: من يشترى منكم نفسه اليوم بالجنة؟ فقال رجل: أنا، فخرج إليهم، فقال: أنا عيسى، وقد صوره الله على صورة عيسى، فأخذوه فقتلوه وصلبوه، فمن ثم شبه لهم وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى، فظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى، ورفع الله عيسى من يومه ذلك.

قال ابن جرير: وحدثنا المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثنى عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهبًا يقول: إن عيسى ابن مريم لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت وشق عليه، فدعا الحواريين وصنع لهم طعامًا، فقال: احضرونى الليلة، فإن لى إليكم حاجة، فلما اجتمعوا إليه من الليل عشاهم وقام يخدمهم، فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه، فقال: ألا من رد على شيئًا الليلة مما أصنع فليس منى ولا أنا منه، فأقروه حتى إذا فرغ من ذلك، قال: أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدى فليكن لكم بى أسوة، فإنكم ترون أنى خيركم، فلا يتعظم بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم لبعض نفسه كما بذلت نفسى لكم، وأما حاجتى التى استعنتكم عليها فتدعون الله وتجتهدون فى الدعاء أن يؤخر أجلى.

فلما نصبوا أنفسهم للدعاء وأرادوا أن يجتهدوا أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء، فجعل يوقظهم ويقول: سبحان الله، أما تصبرون لى ليلة واحدة تعينونى فيها؟ فقالوا: والله ما ندرى ما لنا، والله لقد كنا نسمر فنكثر السمر وما نطيق الليلة سمرًا وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه، فقال: يذهب بالراعى وتتفرق الغنم، وجعل يأتى بكلام نحو هذا ينعى به نفسه.

ثم قال: الحق ليكفرن بى أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعنى أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلن ثمنى، فخرجوا وتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه فأخذوا شمعون أحد الحواريين، فقالوا: هذا من أصحابه فجحد وقال: ما أنا بصاحبه، فتركوه ثم أخذه آخرون فجحد كذلك، ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه، فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود، فقال: ما تجعلون لى إن دللتكم علىالمسيح، فجعلوا له ثلاثين درهمًا فأخذها ودلهم عليه، وكان شبه عليهم قبل ذلك، فأخذوه واستوثقوا منه وربطوه بالحبل وجعلوا يقودونه ويقولون: أنت كنت تحيى الموتى وتنتهر الشيطان وتبرئ المجنون، أفلا تنجى نفسك من هذا الحبل؟ ويبصقون عليه ويلقون عليه الشوك حتى أتوا به الخشبة التى أرادوا أن يصلبوه عليها، فرفعه الله إليه وصلبوا ما شبه لهم فمكث سبعًا.

ثم إن أمه والمرأة التى كان يداويها عيسى فأبرأها الله من الجنون، جاءتا تبكيان حيث كان المصلوب، فجاءهما عيسى فقال: علامَ تبكيان؟ قالتا: عليك، فقال: إنى قد رفعنى الله إليه ولم يصبنى إلا خير، وإن هذا شىء شبه لهم، فأمرا الحواريين أن يلقونى إلى مكان كذا وكذا فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر، وفقد الذى كان باعه ودل عليه اليهود، فسأل عنه أصحابه، فقالوا: إنه ندم على ما صنع فاختنق وقتل نفسه، فقال: لو تاب لتاب الله عليه، ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له: يحيى، فقال: هو معكم فانطلقوا فإنه سيصبح كل إنسان منكم يحدث بلغة قوم فلينذرهم وليدعهم. وهذا إسناد غريب عجيب، وهو أصح مما ذكره النصارى من أن المسيح جاء إلى مريم وهى جالسة تبكى عند جذعة، فأراها مكان المسامير من جسده وأخبرها أن روحه رفعت وأن جسده صلب، وهذا بهت وكذب واختلاق وتحريف وتبديل وزيادة باطلة فى الإنجيل على خلاف الحق ومقتضى النقل.

وحكى الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن حبيب فيما بلغه: أن مريم سألت من بيت الملك بعد ما صلب المصلوب بسبعة أيام، وهى تحسب أنه ابنها، أن ينزل جسده فأجابهم إلى ذلك ودفن هنالك، فقالت مريم لأم يحيى: ألا تذهبين بنا نزور قبر المسيح؟ فذهبتا فلما دنتا من القبر، قالت مريم لأم يحيى: ألا تستترين؟ فقالت: وممن استتر؟ فقالت: من هذا الرجل الذى هو عند القبر، فقالت أم يحيى: إنى لا أرى أحدًا، فرجت مريم أن يكون جبريل، وكانت قد بعد عهدها به، فاستوقفت أم يحيى وذهبت نحو القبر، فلما دنت من القبر قال لها جبريل، وعرفته: يا مريم، أين تريدين؟ فقالت: أزور قبر المسيح فأسلم عليه وأحدث عهدًا به، فقال: يا مريم إن هذا ليس المسيح، إن الله قد رفع المسيح وطهره من الذين كفروا، ولكن هذا الفتى الذى ألقى شبهه عليه وصلب وقتل مكانه، وعلامة ذلك أن أهله قد فقدوه فلا يدرون ما فعل به فهم يبكون عليه، فإذا كان يوم كذا وكذا فأت غيضة كذا وكذا، فإنك تلقين المسيح.

قال: فرجعت إلى أختها، وصعد جبريل، فأخبرتها عن جبريل وما قال لها من أمر الغيضة، فلما كان ذلك اليوم ذهبت فوجدت عيسى فى الغيضة، فلما رآها أسرع إليها وأكب عليها، فقبل رأسها وجعل يدعو لها كما كان يفعل، وقال: يا أمه إن القوم لم يقتلونى ولكن الله رفعنى إليه وأذن لى فى لقائك والموت يأتيك قريبًا فاصبرى واذكرى الله كثيرًا، ثم صعد عيسى فلم تلقه إلا تلك المرة حتى ماتت. قال: وبلغنى أن مريم بقيت بعد عيسى خمس سنين، وماتت ولها ثلاث وخمسون سنة، رضى الله عنها وأرضاها.

وقال الحسن البصرى: كان عمر عيسى عليه السلام يوم رفع أربعًا وثلاثين سنة. وفى الحديث: (إن أهل الجنة يدخلونها جردًا مردًا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين). وفى الحديث الآخر على ميلاد عيسى وحسن يوسف، وكذا قال حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن سعيد بن المسيب، أنه قال: رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.

فأما الحديث الذى رواه الحاكم فى مستدركه، ويعقوب بن سفيان الفسوى فى تاريخه، عن سعيد بن أبى مريم، عن نافع بن يزيد، عن عمارة بن غزية، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، أن أمه فاطمة بنت الحسين حدثته، أن عائشة كانت تقول: (أخبرتنى فاطمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرها أنه لم يكن نبى كان بعده نبى إلا عاش الذى بعده نصف عمر الذى كان قبله، وأنه أخبرنى أن عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة سنة، فلا أرانى إلا ذاهب على رأس ستين). هذا لفظ الفسوى فهو حديث غريب.

قال الحافظ ابن عساكر: والصحيح أن عيسى لم يبلغ هذا العمر، وإنما أراد به مدة مقامه فى أمته. كما روى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة قال: قالت فاطمة: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أن عيسى ابن مريم مكث فى بنى إسرائيل أربعين سنة)، وهذا منقطع. وقال جرير والثورى، عن الأعمش، عن إبراهيم: مكث عيسى فى قومه أربعين عامًا. ويروى عن أمير المؤمنين علىَّ: أن عيسى عليه السلام رفع ليلة الثانى والعشرين من رمضان، وتلك الليلة فى مثلها توفى علىَّ بعد طعنه بخمسة أيام.

وقد روى الضحاك، عن ابن عباس: أن عيسى لما رفع إلى السماء جاءته سحابة فدنت منه حتى جلس عليها، وجاءته مريم فودعته وبكت، ثم رفع وهى تنظر، وألقى إليها عيسى بردًا له، وقال: هذا علامة ما بينى وبينك يوم القيامة، وألقى عمامته على شمعون، وجعلت أمه تودعه بأصبعها تشير بها إليه حتى غاب عنها، وكانت تحبه حبًا شديدًا؛ لأنه توفر عليها حبه من جهتى الوالدين إذ لا أب له، وكانت لا تفارقه سفرًا ولا حضرًا. قال بعض الشعراء:

وكنت أرى كالموت من بين ساعة

فكيـف ببيــن كـان موعده الحشر

وذكر إسحاق بن بشر، عن مجاهد بن جبير: أن اليهود لما صلبوا ذلك الرجل الذى شبه لهم وهم يحسبونه المسيح، وسلم لهم أكثر النصارى بجهلهم ذلك، تسلطوا على أصحابه بالقتل والضرب والحبس، فبلغ أمرهم إلى صاحب الروم، وهو ملك دمشق فى ذلك الزمان، فقيل له: إن اليهود قد تسلطوا على أصحاب رجل كان يذكر لهم أنه رسول الله، وكان يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويفعل العجائب، فعدوا عليه فقتلوه وأهانوا أصحابه وحبسوهم، فبعث فجىء بهم وفيهم يحيى بن زكريا وشمعون وجماعة، فسألهم عن أمر المسيح فأخبروه عنه، فبايعهم فى دينهم وأعلى كلمتهم وظهر الحق على اليهود وعلت كلمة النصارى عليهم، وبعث إلى المصلوب فوضع عن جذعه وجىء بالجذع الذى صلب عليه ذلك الرجل فعظمه، فمن ثم عظمت النصارى الصليب، ومن هاهنا دخل دين النصرانية فى الروم، وفى هذا نظر من وجوه:

أحدها: أن يحيى بن زكريا نبى لا يقر على أن المصلوب عيسى، فإنه معصوم يعلم ما وقع على جهة الحق.

الثانى: أن الروم لم يدخلوا فى دين المسيح إلا بعد ثلاثمائة سنة، وذلك فى زمان قسطنطين بن قسطن بانى المدينة المنسوبة إليه على ما سنذكره.

الثالث أن اليهود لما صلبوا ذلك الرجل ثم ألقوه بخشبته جعلوا مكانه مطرحًا للقمامة والنجاسة وجيف الميتات والقاذورات، فلم يزل كذلك حتى كان فى زمان قسطنطين المذكور، فعمدت أمه هيلانة الحرانية الفندقانية فاستخرجته من هنالك معتقدة أنه المسيح، ووجدوا الخشبة التى صلب عليها المصلوب، فذكروا أنه ما مسها ذو عاهة إلا عوفى، فالله أعلم أكان هذا أم لا؟ وهل كان هذا لأن ذلك الرجل الذى بذل نفسه كان رجلاً صالحًا؟ أو كان هذا محنة وفتنة لأمة النصارى فى ذلك اليوم حتى عظموا تلك الخشبة وغشوها بالذهب واللآلئ ومن ثم اتخذوا الصلبانات وتبركوا بشكلها وقبلوها؟ وأمرت أم الملك هيلانة فأزيلت تلك القمامة وبنى مكانها كنيسة هائلة مزخرفة بأنواع الزينة، فهى هذه المشهورة اليوم ببلد بيت المقدس التى يقال لها: القمامة، باعتبار ما كان عندها، ويسمونها القيامة يعنون التى يقوم جسد المسيح منها، ثم أمرت هيلانة بأن توضع قمامة البلد وكناسته وقاذوراته على الصخرة التى هى قبلة اليهود، فلم يزل كذلك حتى فتح عمر بن الخطاب بيت المقدس فكنس عنها القمامة بردائه وطهرها من الأخباث والأنجاس، ولم يضع المسجد وراءها ولكن أمامها حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بالأنبياء وهو الأقصى.

صفة عيسى عليه السلام وشمائله وفضائله

قال الله تعالى: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة}. قيل: سمى المسيح لمسحه الأرض وهو سياحته فيها وفراره بدينه من الفتن فى ذلك الزمان لشدة تكذيب اليهود له وافترائهم عليه وعلى أمه عليهما السلام. وقيل: لأنه كان ممسوح القدمين. وقال تعالى: {ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل} فيه هدى ونور، وقال تعالى: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس}، والآيات فى ذلك كثيرة جدًا، وقد تقدم ما ثبت فى الصحيحين: (ما من مولود إلا والشيطان يطعن فى خاصرته حين يولد فيستهل صارخًا إلا مريم وابنها ذهب يطعن فطعن فى الحجاب).

وتقدم حديث عمير بن هانئ، عن جنادة، عن عبادة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته التى ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل). رواه البخارى وهذا لفظه ومسلم.

وروى البخارى ومسلم من حديث الشعبى، عن أبى بردة بن أبى موسى، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا أدب الرجل أمته فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها كان له أجران، وإذا آمن بعيسى ابن مريم ثم آمن بى فله أجران، والعبد إذا اتقى ربه وأطاع مواليه فله أجران). هذا لفظ البخارى.

 

وقال البخارى: حدثنا إبراهيم بن موسى، أنبأنا هشام، عن معمر، وحدثنى محمود، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن الزهرى، أخبرنى سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة، قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم : (ليلة أسرى بى لقيت موسى)، قال: (فنعته، فإذا رجل، حسبته قال: مضطرب رجل الرأس، كأنه من رجال شنؤة). قال: (ولقيت عيسى فنعته النبى صلى الله عليه وسلم ، فقال: ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس، يعنى الحمام، ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به). الحديث وقد تقدم فى قصتى إبراهيم وموسى.

ثم قال: حدثنا محمد بن كثير، أنبأنا إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم : (رأيت عيسى وموسى وإبراهيم، فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر، وأما موسى فآدم جسيم سبط كأنه من رجال الزط). تفرد به البخارى. وحدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا أبو ضمرة، حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع قال: قال عبد الله بن عمر: ذكر النبى صلى الله عليه وسلم يومًا بين ظهرانى الناس المسيح الدجال، فقال: (إن الله ليس بأعور، إلا أن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية، وأرانى الليلة عند الكعبة فى المنام فإذا رجل آدم كأحسن ما يرى من آدم الرجال تضرب لمته بين منكبيه، رجل الشعر يقطر رأسه ماء، واضعًا يديه على منكبى رجلين وهو يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ فقالوا: المسيح ابن مريم، ثم رأيت رجلاً وراءه جعد قطط أعور عين اليمنى، كأشبه من رأيت بابن قطن واضعًا يده على منكبى رجل يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ فقالوا: المسيح الدجال). ورواه مسلم من حديث موسى بن عقبة.

ثم قال البخارى: تابعه عبد الله بن نافع ثم ساقه من طريق الزهرى، عن سالم بن عمر، قال الزهرى: وابن قطن رجل من خزاعة هلك فى الجاهلية، فبين صلوات الله وسلامه عليه صفة المسيحين، مسيح المهدى ومسيح الضلالة، ليعرف هذا إذا نزل فيؤمن به المؤمنون، ويعرف الآخر فيحذره الموحدون. وقال البخارى: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (رأى عيسى ابن مريم رجلاً يسرق، فقال له: أسرقت؟ قال: كلا والذى لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنت بالله وكذبت عينى). وكذا رواه محمد بن رافع، عن عبد الرزاق.

قال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن الحسن وغيره، عن أبى هريرة قال: ولا أعلمه إلا عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (رأى عيسى رجلاً يسرق، فقال: يا فلان، أسرقت؟ فقال: لا والله ما سرقت، فقال: آمنت بالله وكذبت بصرى)، وهذا يدل على سجية طاهرة، حيث قدم حلف ذلك الرجل فظن أن أحدًا لا يحلف بعظمة الله كاذبًا على ما شاهده منه عيانًا، فقبل عذره ورجع على نفسه، فقال: آمنت بالله، أى صدقتك وكذبت بصرى لأجل حلفك.

وقال البخارى: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (تحشرون حفاة عراة غرلا)، ثم قرأ: {كما بدأنا أول خلق نعيده وعدًا علينا إنا كنا فاعلين}، (فأول الخلق يكسى إبراهيم، ثم يؤخذ برجال من أصحابى ذات اليمين وذات الشمال فأقول: أصحابى، فيقال: إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول كما قال العبد الصالح عيسى ابن مريم: {وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شىء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}). تفرد به دون مسلم من هذا الوجه.

وقال أيضًا: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدى، حدثنا سفيان، سمعت الزهرى يقول: أخبرنى عبد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، سمع عمر يقول على المنبر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله).

وقال البخارى: حدثنا إبراهيم، حدثنا جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (لم يتكلم فى المهد إلا ثلاثة: عيسى. وكان فى بنى إسرائيل رجل يقال له: جريج يصلى إذ جاءته أمه فدعته، فقال: أجيبها أو أصلى؟ فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج فى صومعة، فعرضت له امرأة وكلمته فأبى، فأتت راعيًا فأمكنته من نفسها فولدت غلامًا، فقيل لها: ممن؟ قالت: من جريج، فأتوه وكسروا صومعته فأنزلوه وسبوه فتوضأ وصلى، ثم أتى الغلام، فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: فلان الراعى، قالوا: أنبنى صومعتك من ذهب؟ قال: لا إلا من طين. وكانت امرأة ترضع ابنًا لها فى بنى إسرائيل، فمر بها رجل راكب ذو شارة، فقالت: اللهم اجعل ابنى مثله، فترك ثديها وأقبل على الراكب، فقال: اللهم لا تجعلنى مثله، ثم أقبل على ثديها يمصه). قال أبو هريرة: كأنى أنظر إلى النبى صلى الله عليه وسلم يمص أصبعه، (ثم مر بأمة فقالت: اللهم لا تجعل ابنى مثل هذه، فترك ثديها فقال: اللهم اجعلنى مثلها، فقالت: لم ذلك؟ فقال: الراكب جبار من الجبابرة، وهذه الأمة يقولون سرقت وزنت ولم تفعل).

وقال البخارى: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهرى، أخبرنى أبو سلمة، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا أولى الناس بابن مريم والأنبياء أولاد علات ليس بينى وبينه نبى). تفرد به البخارى من هذا الوجه. ورواه ابن حبان فى صحيحه من حديث أبى داود الحفرى، عن الثورى، عن أبى الزناد، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة.

وقال أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، هو الثورى، عن أبى الزناد، عن الأعرج، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أنا أولى الناس بعيسى عليه السلام والأنبياء أخوة أولاد علات وليس بينى وبين عيسى نبى). وهذا إسناد صحيح على شرطهما ولم يخرجوه من هذا الوجه. وأخرجه أحمد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم بنحوه. وأخرجه ابن حبان من حديث عبد الرزاق نحوه.

وقال أحمد: حدثنا يحيى، عن ابن أبى عروبة، حدثنا قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (الأنبياء أخوة لعلات، ودينهم واحد وأمهاتهم شتى، وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم؛ لأنه لم يكن بينى وبينه نبى، وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، سبط كأن رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل بين مخصرتين، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويعطل الملل حتى يهلك فى زمانه كلها غير الإسلام، ويهلك الله فى زمانه المسيح الدجال الكذاب، وتقع الأمنة فى الأرض حتى ترتع الإبل مع الأسد جميعًا، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان والغلمان بالحيات لا يضر بعضهم بعضًا، فيمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يتوفى، فيصلى عليه المسلمون ويدفنونه). ثم رواه أحمد، عن عفان، عن همام، عن قتادة، عن عبد الرحمن، عن أبى هريرة فذكر نحوه، وقال: (فيمكث أربعين سنة ثم يتوفى ويصلى عليه المسلمون). ورواه أبو داود، عن هدبة بن خالد، عن همام بن يحيى به نحوه.

وروى هشام بن عروة، عن صالح مولى أبى هريرة عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فيمكث فى الأرض أربعين سنة)، وسيأتى بيان نزوله عليه السلام فى آخر الزمان فى كتاب الملاحم كما بسطنا ذلك أيضًا فى التفسير عند قوله تعالى فى سورة النساء: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا}، وقوله: {وإنه لعلم للساعة} الآية، (وإنه ينزل على المنارة البيضاء بدمشق وقد أقيمت صلاة الصبح، فيقول له إمام المسلمين: تقدم يا روح الله فصل، فيقول: لا بعضكم على بعض أمراء مكرمة الله هذه الأمة). وفى رواية: (فيقول له عيسى: إنما أقيمت الصلاة لك فيصلى خلفه، ثم يركب ومعه المسلمون فى طلب المسيح الدجال، فيلحقه عند باب لد فيقتله بيده الكريمة). وذكرنا: أنه أقوى الرجاء حين بنيت هذه المنارة الشرقية بدمشق التى هى من حجارة بيض، وقد بنيت أيضًا من أموال النصارى حين حرقوا التى هدمت وما حولها، فينزل عليها عيسى ابن مريم عليه السلام فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ولا يقبل من أحد إلا الإسلام، وأنه يحج من فج الروحاء حاجًا أو معتمرًا أو لثنتيهما ويقيم أربعين سنة، ثم يموت فيدفن فيما قيل: فى الحجرة النبوية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه. وقد ورد فى ذلك حديث ذكره ابن عساكر فى آخر ترجمة المسيح عليه السلام فى كتابه عن عائشة مرفوعًا: أنه يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر فى الحجرة النبوية، ولكن لا يصح إسناده.

وقال أبو عيسى الترمذى: حدثنا زيد بن أخزم الطائى، حدثنا أبو قتيبة مسلم بن قتيبة، حدثنى أبو مودود المدنى، حدثنا عثمان بن الضحاك، عن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده، قال: مكتوب فى التوراة صفة محمد، وعيسى ابن مريم عليهم السلام يدفن معه. قال أبو مودود: وقد بقى من البيت موضع قبر. ثم قال الترمذى: هذا حديث حسن، كذا قال، والصواب: الضحاك بن عثمان المدنى. وقال البخارى: هذا الحديث لا يصح عندى ولا يتابع عليه.

وروى البخارى، عن يحيى بن حماد، عن أبى عوانة، عن عاصم الأحول، عن أبى عثمان النهدى، عن سلمان، قال: الفترة ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة. وعن قتادة: خمسمائة وستون سنة. وقيل: خمسمائة وأربعون سنة. وعن الضحاك: أربعمائة وبضع وثلاثون سنة. والمشهور: ستمائة سنة. ومنهم من يقول: ستمائة وعشرون سنة بالقمرية، لتكون ستمائة بالشمسية، والله أعلم.

وقال ابن حبان فى صحيحه: (ذكر المدة التى بقيت فيها أمة عيسى على هديه)، حدثنا أبو يعلى، حدثنا أبو همام، حدثنا الوليد بن مسلم، عن الهيثم بن حميد، عن الوضين بن عطاء، عن نصر بن علقمة، عن جبير بن نفير، عن أبى الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لقد قبض الله داود من بين أصحابه فما فتنوا ولا بدلوا، ولقد مكث أصحاب المسيح على سنته وهديه مائتى سنة). وهذا حديث غريب جدًا وإن صححه ابن حبان.

التالى