ميلاد العبد الرسول عيسى ابن مريم البتول

قال الله تعالى: {واذكر فى الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانًا شرقيًا فاتخذت من دونهم حجابًا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرًا سويًا قالت إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلامًا زكيا قالت أنى يكون لى غلام ولم يمسسنى بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرًا مقضيا فحملته فانتبذت به مكانًا قصيًا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتنى مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا فناداها من تحتها ألا تحزنى قد جعل ربك تحت سريًا وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبًا جنيا فكلى واشربى وقرى عينًا فإما ترين من البشر أحدًا فقولى إنى نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيا فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئًا فريًا يا أخت هارون ما كان أبوك أمرء سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان فى المهد صبيًا قال إنى عبد الله آتانى الكتاب وجعلنى نبيًا وجعلنى مباركًا أينما كنت وأوصانى بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرًا بوالدتى ولم يجعلنى جبارًا شقيًا والسلام علىَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيًا ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذى فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون وإن الله ربى وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم}.

ذكر تعالى هذه القصة بعد قصة زكريا التى هى كالمقدمة لها والتوطئة قبلها، كما ذكر فى سورة آل عمران قرن بينهما فى سياق واحد، وكما قال فى سورة الأنبياء: {وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرنى فردًا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون فى الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين والتى أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين}.

وقد تقدم أن مريم لما جعلتها أمها محررة تخدم بيت المقدس، وأنه كفلها زوج أختها، أو خالتها، نبى ذلك الزمان زكريا عليه السلام، وأنه اتخذ لها محرابًا، وهو المكان الشريف من المسجد لا يدخله أحد عليها سواه، وأنها لما بلغت اجتهدت فى العبادة، فلم يكن فى ذلك الزمان نظيرها فى فنون العبادات، وظهر عليها من الأحوال ما غبطها به زكريا عليه السلام، وأنها خاطبتها الملائكة بالبشارة لها باصطفاء الله لها وبأنه سيهب لها ولدًا زكيًا يكون نبيًا كريمًا طاهرًا مكرمًا مؤيدًا بالمعجزات، فتعجبت من وجود ولد من غير والد؛ لأنها لا زوج لها ولا هى ممن تتزوج، فأخبرتها الملائكة بأن الله قادر على ما يشاء إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون.

فاستكانت لذلك وأنابت وسلمت لأمر الله، وعلمت أن هذا فيه محنة عظيمة لها، فإن الناس يتكلمون فيها بسببه؛ لأنهم لا يعلمون حقيقة الأمر، وإنما ينظرون إلى ظاهر الحال من غير تدبر ولا تعقل، وكانت إنما تخرج من المسجد فى زمن حيضها أو لحاجة ضرورية لابد منها من استقاء ماء أو تحصيل غذاء، فبينما هى يومًا قد خرجت لبعض شؤونها {وانتبذت}، أى انفردت وحدها شرقى المسجد الأقصى، إذ بعث الله إليها الروح الأمين جبريل عليه السلام، فتمثل لها بشرًا سويًا، فلما رأته {قالت إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا}.

قال أبو العالية: علمت أن التقى ذو نهية، وهذا يرد قول من زعم: أنه كان فى بنى إسرائيل رجل فاسق مشهور، بالفسق اسمه تقى، فإن هذا قول باطل بلا دليل، وهو من أسخف الأقوال، {قال إنما أنا رسول ربك}، أى خاطبها الملك قائلاً: إنما أنا رسول ربك لست ببشر ولكنى ملك بعثنى الله إليك {ليهب لك غلامًا زكيًا}، أى ولدًا زكيًا، {قالت أنى يكون لى غلام}، أى كيف يكون لى غلام؟ أو يوجد لى ولد، {ولم يمسسنى بشر ولم أك بغيًا}، أى ولست ذات زوج، وما أنا ممن يفعل الفاحشة، {قال كذلك قال ربك هو على هين}، أى فأجابها الملك عن تعجبها من وجود ولد منها والحالة هذه، قائلاً: {كذلك قال ربك}، أى وعد أنه سيخلق منك غلامًا ولست بذات بعل ولا تكونين ممن تبغين، {هو على هين}، أى وهذا سهل عليه ويسير لديه، فإنه على ما يشاء قدير.

وقوله: {ولنجعله آية للناس}، أى ولنجعل خلقه والحالة هذه دليلاً على كمال قدرتنا على أنواع الخلق، فإنه تعالى خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية الخلق من ذكر وأنثى. وقوله: {ورحمة منا}، أى نرحم به العباد بأن يدعوهم إلى الله فى صغره وكبره، فى طفوليته وكهوليته، بأن يفردوا الله بالعبادة وحده لا شريك له وينزهوه عن اتخاذ الصاحبة والأولاد والشركاء والنظراء والأضداد والأنداد. وقوله: {وكان أمرًا مقضيا}، يحتمل أن يكون هذا من تمام كلام جبريل معها، يعنى أن هذا أمر قد قضاه الله وحتمه وقدره وقرره، وهذا معنى قول محمد بن إسحاق، واختاره ابن جرير ولم يحك سواه، والله أعلم.

ويحتمل أن يكون قوله: {وكان أمرًا مقضيا}، كناية عن نفخ جبريل فيها، كما قال تعالى: {ومريم ابنة عمران التى أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا}، فذكر غير واحد من السلف أن جبريل نفخ فى جيب درعها، فنزلت النفخة إلى فرجها فحملت من فورها كما تحمل المرأة عند جماع بعلها، ومن قال: إنه نفخ فى فمها، أو أن الذى كان يخاطبها هو الروح الذى ولج فيها من فمها، فقوله خلاف ما يفهم من سياقات هذه القصة فى محالها من القرآن، فإن هذا السياق يدل على أن الذى أرسل إليها ملك من الملائكة، وهو جبريل عليه السلام، وأنه إنما نفخ فيها ولم يواجه الملك الفرج، بل نفخ فى جيبها فنزلت النفخة إلى فرجها فانسلكت فيه، كما قال تعالى: {فنفخنا فيه من روحنا}، يدل على أن النفخة ولجت فيه لا فى فمها كما روى عن أبى بن كعب، ولا فى صدرها كما رواه السدى بإسناده عن بعض الصحابة.

ولهذا قال تعالى: {فحملته}، أى حملت ولدها، {فانتبذت به مكانا قصيا}، وذلك لأن مريم عليها السلام لما حملت ضاقت به ذرعًا، وعلمت أن كثيرًا من الناس سيكون منهم كلام فى حقها، فذكر غير واحد من السلف منهم وهب بن منبه: أنها لما ظهرت عليها مخايل الحمل، كان أول من فطن لذلك رجل من عباد بنى إسرائيل يقال له: يوسف بن يعقوب النجار، وكان ابن خالها، فجعل يتعجب من ذلك عجبًا شديدًا، وذلك لما يعلم من ديانتها ونزاهتها وعبادتها، وهو مع ذلك يراها حبلى وليس لها زوج، فعرض لها ذات يوم فى الكلام، فقال: يا مريم، هل يكون زرع من غير بذر؟ قالت: نعم، فمن خلق الزرع الأول؟ ثم قال: فهل يكون شجر من غير ماء ولا مطر؟ قالت: نعم، فمن خلق الشجر الأول؟ ثم قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، إن الله خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، قال لها: فأخبرينى خبرك، فقالت: إن الله بشرنى {بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهًا فى الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس فى المهد وكهلاً ومن الصالحين}. ويروى مثل هذا عن زكريا عليه السلام أنه سألها فأجابته بمثل هذا، والله أعلم.

وذكر السدى بإسناده عن الصحابة: أن مريم دخلت يومًا على أختها، فقالت لها أختها: أشعرت أنى حبلى؟ فقالت مريم: وشعرت أيضًا أنى حبلى، فاعتنقتها وقالت لها أم يحيى: إنى أرى ما فى بطنى يسجد لما فى بطنك، وذلك قوله: {مصدقًا بكلمة من الله}، ومعنى السجود هاهنا الخضوع والتعظيم كالسجود عند المواجهة للسلام كما كان فى شرع من قبلنا، وكما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم. وقال أبو القاسم: قال مالك: بلغنى أن عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا ابنا خالة، وكان حملهما جميعًا معًا، فبلغنى أن أم يحيى قالت لمريم: إنى أرى ما فى بطنى يسجد لما فى بطنك. قال مالك: أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام؛ لأن الله تعالى جعله يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص. رواه ابن أبى حاتم. وروى عن مجاهد قال: قالت مريم: كنت إذا خلوت حدثنى وكلمنى، وإذا كنت بين الناس سبح فى بطنى.

ثم الظاهر أنها حملت به تسعة أشهر كما تحمل النساء ويضعن لميقات حملهن ووضعهن، إذ لو كان خلاف ذلك لذكر. وعن ابن عباس وعكرمة: أنها حملت به ثمانية أشهر. وعن ابن عباس: ما هو إلا أن حملت به فوضعته. قال بعضهم: حملت به تسع ساعات، واستأنسوا لذلك بقوله: {فحملته فانتبذت به مكانًا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة}، والصحيح أن تعقيب كل شىء بحسبه؛ كقوله: {فتصبح الأرض مخضرة}، وكقوله: {فخلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقًا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين}، ومعلوم أن بين كل حالين أربعين يومًا كما ثبت فى الحديث المتفق عليه.

قال محمد بن إسحاق: شاع واشتهر فى بنى إسرائيل أنها حامل، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل بيت زكريا. قال: واتهمها بعض الزنادقة بيوسف الذى كان يتعبد معها فى المسجد، وتوارت عنهم مريم واعتزلتهم وانتبذت مكانًا قصيا، وقوله: {فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة}، أى فألجأها واضطرها الطلق إلى جذع النخلة، وهو بنص الحديث الذى رواه النسائى بإسناد لا بأس به، عن أنس مرفوعًا، والبيهقى بإسناد.

وصححه عن شداد بن أوس مرفوعًا أيضًا: ببيت لحم الذى بنى عليه بعض ملوك الروم فيما بعد، على ما سنذكره، هذا البناء المشاهد الهائل. {قالت يا ليتنى مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا}، فيه دليل على جواز تمنى الموت عند الفتن، وذلك أنها علمت أن الناس يتهمونها ولا يصدقونها، بل يكذبونها حين تأتيهم بغلام على يدها مع أنها قد كانت عندهم من العابدات الناسكات المجاورات فى المسجد، المنقطعات إليه، المعتكفات فيه، ومن بيت النبوة والديانة، فحملت بسبب ذلك من الهم ما تمنت أن لو كانت ماتت قبل هذا الحال أو كانت {نسيًا منسيًا}، أى لم تخلق بالكلية.

وقوله: {فناداها من تحتها} وقرئ من تحتها على الخفض، وفى المضمر قولان: أحدهما: أنه جبريل، قاله العوفى، عن ابن عباس، قال: ولم يتكلم عيسى إلا بحضرة القوم، وهكذا قال سعيد بن جبير وعمرو بن ميمون والضحاك والسدى وقتادة. وقال مجاهد والحسن وابن زيد وسعيد بن جبير فى رواية: هو ابنها عيسى، واختاره ابن جرير. وقوله: {أن لا تحزنى قد جعل ربك تحتك سريًا}، قيل النهر، وإليه ذهب الجمهور، وجاء فيه حديث رواه الطبرانى لكنه ضعيف، واختاره ابن جرير وهو الصحيح. وعن الحسن والربيع بن أنس وابن أسلم وغيرهم: أنه ابنها، والصحيح الأول؛ لقوله: {وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبًا جنيًا}، فذكر الطعام والشراب؛ ولهذا قال: {فكلى واشربى وقرى عينا}، ثم قيل: كان جذع النخلة يابسًا، وقيل: كانت نخلة مثمرة، فالله أعلم.

ويحتمل أنها كانت نخلة لكنها لم تكن مثمرة إذ ذاك؛ لأن ميلاده كان فى زمن الشتاء وليس ذاك وقت ثمر، وقد يفهم ذلك من قوله تعالى على سبيل الامتنان: {تساقط عليك رطبًا جنيا}. قال عمرو بن ميمون: ليس شىء أجود للنفساء من التمر والرطب، ثم تلا هذه الآية. وقال ابن أبى حاتم: حدثنا على بن الحسين، حدثنا شيبان، حدثنا مسرور بن سعيد التميمى، حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأنصارى، عن عروة بن رويم، عن علىَّ بن أبى طالب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين الذى خلق منه آدم وليس من الشجر شىء يلقح غيرها). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أطعموا نساءكم الولد الرطب، فإن لم يكن رطب فتمر، وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران). وكذا رواه أبو يعلى فى مسنده، عن شيبان بن فروخ، عن مسروق بن سعيد. وفى رواية مسرور بن سعد. والصحيح مسرور بن سعيد التميمى أورد له ابن عدى هذا الحديث عن الأوزاعى به، ثم قال: وهو منكر الحديث، ولم أسمع بذكره إلا فى هذا الحديث. وقال ابن حبان: يروى عن الأوزاعى المناكير الكثيرة التى لا يجوز الاحتجاج بمن يرويها.

وقوله: {فإما ترين من البشر أحدًا فقولى إنى نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيًا}، وهذا من تمام كلام الذى ناداها من تحتها، قال: {كلى واشربى وقرى عينا فأما ترين من البشر أحدًا}، أى فإن رأيت أحدًا من الناس، {فقولى} له، أى بلسان الحال والإشارة: {إنى نذرت للرحمن صومًا}، أى صمتًا، وكان من صومهم فى شريعتهم ترك الكلام والطعام، قاله قتادة والسدى وابن أسلم، ويدل على ذلك قوله: {فلن أكلم اليوم إنسيًا}، فأما فى شريعتنا، فيكره للصائم صمت يوم إلى الليل.

وقوله تعالى: {فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئًا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيًا}، ذكر كثير من السلف ممن ينقل عن أهل الكتاب: أنهم لما افتقدوها من بين أظهرهم ذهبوا فى طلبها، فمروا على محلتها والأنوار حولها، فلما واجهوها وجدوا معها ولدها، فقالوا لها: {يا مريم لقد جئت شيئًا فريا}، أى أمرًا عظيمًا منكرًا، وفى هذا الذى قالوه نظر مع أنه كلام ينقض أوله آخره، وذلك لأن ظاهر سياق القرآن العظيم يدل على أنها حملت بنفسها وأتت به قومها وهى تحمله. قال ابن عباس: وذلك بعد ما تعلت من نفاسها بعد أربعين يومًا.

والمقصود: أنهم لما رأوها تحمل معها ولدها {قالوا يا مريم لقد جئت شيئًا فريا}، والفرية هى الفعلة المنكرة العظيمة من الفعال والمقال، ثم قالوا لها: {يا أخت هارون}، قيل: شبهوها بعابد من عباد زمانهم كانت تساميه فى العبادة، وكان اسمه هارون، وقيل: شبهوها برجل فاجر فى زمانهم اسمه هارون، قاله سعيد بن جبير. وقيل: أرادوا بهارون أخا موسى، شبهوها به فى العبادة، وأخطأ محمد بن كعب القرظى فى زعمه أنها أخت موسى وهارون نسبًا، فإن بينهما من الدهور الطويلة ما لا يخفى على أدنى من عنده من العلم ما يرده عن هذا القول الفظيع، وكأنه غره أن فى التوراة أن مريم أخت موسى وهارون ضربت بالدف يوم نجا الله موسى وقومه وأغرق فرعون وملأه، فاعتقد أن هذه هى هذه، وهذا فى غاية البطلان والمخالفة للحديث الصحيح مع نص القرآن كما قررناه فى التفسير مطولاً ولله الحمد والمنة. وقد ورد الحديث الصحيح الدال على أنه قد كان لها أخ اسمه هارون، وليس فى ذكر قصة ولادتها وتحرير أمها لها ما يدل على أنها ليس لها أخ سواها، والله أعلم.

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن إدريس، سمعت أبى يذكره، عن سماك، عن علقمة بن وائل، عن المغيرة بن شعبة، قال: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران، فقالوا: أرأيت ما تقرءون: {يا أخت هارون}، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: (ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم). وكذا رواه مسلم والنسائى والترمذى من حديث عبد الله بن إدريس. وقال الترمذى: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديثه. وفى رواية: (ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بأسماء صالحيهم وأنبيائهم). وذكر قتادة وغيره أنهم كانوا يكثرون من التسمية بهارون، حتى قيل: إنه حضر بعض جنائزهم بشر كثير منهم ممن يسمى بهارون أربعون ألفًا، فالله أعلم.

والمقصود: أنهم قالوا: {يا أخت هارون}، ودل الحديث على أنها قد كان لها أخ نسبى اسمه هارون، وكان مشهورًا بالدين والصلاح والخير؛ ولهذا قالوا: {ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيًا}، أى لست من بيت هذا شيمتهم ولا سجيتهم، لا أخوك ولا أمك ولا أبوك، فاتهموها بالفاحشة العظمى ورموها بالداهية الدهياء. فذكر ابن جرير فى تاريخه: أنهم اتهموا بها زكريا وأرادوا قتله، ففر منهم فلحقوه وقد انشقت له الشجرة فدخلها، وأمسك إبليس بطرف ردائه فنشروه فيها، كما قدمنا، ومن المنافقين من اتهمها بابن خالها يوسف بن يعقوب النجار.

فلما ضاق الحال وانحصر المجال وامتنع المقال عظم التوكل على ذى الجلال، ولم يبق إلا الإخلاص والاتكال، {فأشارت إليه}، أى خاطبوه وكلموه، فإن جوابكم عليه وما تبغون من الكلام لديه، فعندها {قالوا} من كان منهم جبارًا شقيًا: {كيف نكلم من كان فى المهد صبيًا}، أى كيف تحيلينا فى الجواب على صبى صغير لا يعقل الخطاب؟ وهو مع ذلك رضيع فى مهده ولا يميز بين مخض وزبدة؟ وما هذا منك إلا على سبيل التهكم بنا والاستهزاء والتنقص لنا والازدراء إذ لا تردين علينا قولاً نطقيًا، بل تحيلين فى الجواب على من كان فى المهد صبيًا.

فعندها {قال إنى عبد الله آتانى الكتاب وجعلنى نبيًا وجعلنى مباركًا أينما كنت وأوصانى بالصلاة والزكاة ما دمت حيًا وبرًا بوالدتى ولم يجعلنى جبارًا شقيًا والسلام علىَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيًا}، هذا أول كلام تفوه به عيسى ابن مريم، فكان أول ما تكلم به أن {قال إنى عبد الله}، اعترف لربه تعالى بالعبودية وأن الله ربه، فنزه جناب الله عن قول الظالمين فى زعمهم أنه ابن الله، بل هو عبده ورسوله وابن أمته، ثم برأ أمه مما نسبها إليه الجاهلون وقذفوها به ورموها بسببه بقوله: {آتانى الكتاب وجعلنى نبيًا}، فإن الله لا يعطى النبوة من هو كما زعموا، لعنهم الله وقبحهم.

كما قال تعالى: {وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا}، وذلك أن طائفة من اليهود فى ذلك الزمان قالوا: إنها حملت به من زنا فى زمن الحيض، لعنهم الله، فبرأها الله من ذلك وأخبر عنها أنها صديقة واتخذ ولدها نبيًا مرسلاً أحد أولى العزم الخمسة الكبار، ولهذا قال: {وجعلنى مباركا أينما كنت}، وذلك أنه حيث كان دعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونزه جنابه عن النقص والعيب من اتخاذ الولد والصاحبة تعالى وتقدس، {وأوصانى بالصلاة والزكاة ما دمت حيًا}، وهذه وظيفة العبيد فى القيام بحق العزيز الحميد بالصلاة والإحسان إلى الخليقة، بالزكاة وهى تشتمل على طهارة النفوس من الأخلاق الرذيلة وتطهير الأموال الجزيلة بالعطية للمحاويج على اختلاف الأصناف وقرى الأضياف، والنفقات على الزوجات والأرقاء والقرابات وسائر وجوه الطاعات وأنواع القربات.

ثم قال: {وبرًا بوالدتى ولم يجعلنى جبارًا شقيًا}، أى وجعلنى برًا بوالدتى، وذلك أنه تأكد حقها عليه لتمحض جهتها إذ لا والد له سواها، فسبحان من خلق الخليقة وبرأها وأعطى كل نفس هداها {ولم يجعلنى جبارًا شقيًا}، أى لست بفظ ولا غليظ ولا يصدر منى قول ولا فعل ينافى أمر الله وطاعته، {والسلام علىَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيًا}، وهذه الأماكن الثلاثة التى تقدم الكلام عليها فى قصة يحيى ابن زكريا عليهما السلام، ثم لما ذكر تعالى قصته على الجلية وبين أمره ووضحه وشرحه، قال {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذى فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون}.

كما قال تعالى بعد ذكر قصته وما كان من أمره فى آل عمران: {ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين}.

ولهذا لما قدم وفد نجران وكانوا ستين راكبًا يرجع أمرهم إلى أربعة عشر منهم، ويؤول أمر الجميع إلى ثلاثة هم أشرافهم وساداتهم، وهم: العاقب والسيد وأبو حارثة بن علقمة، فجعلوا يناظرون فى أمر المسيح، فأنزل الله صدر سورة آل عمران فى ذلك وبين أمر المسيح وابتداء خلقه وخلق أمه من قبله، وأمر رسوله بأن يباهلهم إن لم يستجيبوا له ويتبعوه، فلما رأوا عينيها وأذنيها نكصوا وامتنعوا عن المباهلة وعدلوا إلى المسالمة والموادعة، وقال قائلهم، وهو العاقب عبد المسيح: يا معشر النصارى، لقد علمتم إن محمدًا لنبى مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيًا قط فبقى كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنها للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول فى صاحبكم، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، فطلبوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يضرب عليهم جزية وأن يبعث معهم رجلاً أمينًا، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح. وقد بينا ذلك فى تفسير آل عمران وسيأتى بسط هذه القضية فى السيرة النبوية إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

والمقصود: أن الله تعالى بين أمر المسيح، فقال لرسوله: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذى فيه يمترون}، يعنى من أنه عبد مخلوق من امرأة من عباد الله؛ ولهذا قال: {ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون}، أى لا يعجزه شىء ولا يكترثه ولا يؤوده، بل هو القدير الفعال لما يشاء، {إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون}، وقوله: {إن الله ربى وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم}، هو من تمام كلام عيسى لهم فى المهد، أخبرهم أن الله ربه وربهم، وإلهه وإلههم، وأن هذا هو الصراط المستقيم.

قال الله تعالى: {فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم}، أى فاختلف أهل ذلك الزمان ومن بعدهم فيه، فمن قائل من اليهود: إنه ولد زنية، واستمروا على كفرهم وعنادهم، وقابلهم آخرون فى الكفر، فقالوا: هو الله، وقال آخرون: هو ابن الله، وقال المؤمنون: هو عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وهؤلاء هم الناجون المثابون المؤيدون المنصورون، ومن خالفهم فى شىء من هذه القيود فهم الكافرون الضالون الجاهلون، وقد توعدهم العلى العظيم الحكيم العليم بقوله: {فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم}.

قال البخارى: حدثنا صدقة بن الفضل، أنبأنا الوليد، حدثنا الأوزاعى، حدثنى عمير ابن هانى، حدثنى جنادة بن أبى أمية، عن عبادة بن الصامت، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل). قال الوليد: فحدثنى عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن عمير، عن جنادة، وزاد: (من أبواب الجنة الثمانية أيها شاء). وقد رواه مسلم، عن داود بن رشيد، عن الوليد، عن جابر به، ومن طرق أخرى عن الأوزاعى به.

باب بيان أن الله تعالى منزه عن الولد

قال تعالى فى آخر هذه السورة: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا لقد جئتم شيئًا إدا}، أى شيئًا عظيمًا ومنكرًا من القول وزورًا {تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًا أن دعوا للرحمن ولدًا وما ينبغى للرحمن أن يتخذ ولدًا إن كل من فى السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبدًا لقد أحصاهم وعدهم عدًا وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا}، فبين أنه تعالى لا ينبغى له الولد؛ لأنه خالق كل شىء ومالكه وكل شىء فقير إليه خاضع ذليل لديه، وجميع سكان السماوات والأرض عبيده وهو ربهم لا إله إلا هو ولا رب سواه، كما قال تعالى: {وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبه وخلق كل شىء وهو بكل شىء عليم ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شىء فاعبدوه وهو على كل شىء وكيل لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}، فبين أنه خالق كل شىء، فكيف يكون له ولد والولد لا يكون إلا بين شيئين متناسبين؟ والله تعالى لا نظير له ولا شبيه له ولا عديل له، فلا صاحبة له فلا يكون له ولد.

كما قال تعالى: {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد}، تقرر أنه الأحد الذى لا نظير له فى ذاته ولا فى صفاته ولا فى أفعاله، {الصمد}، وهو السيد الذى كمل فى علمه وحكمته ورحمته وجميع صفاته، {لم يلد}، أى لم يوجد منه ولد، {ولم يولد}، أى ولم يتولد عن شىء قبله، {ولم يكن له كفوًا أحد}، أى وليس له عدل ولا مكافئ ولا مساو، فقطع النظير المدانى الأعلى والمساوى، فانتفى أن يكون له ولد، إذ لا يكون الولد إلا متولدًا بين شيئين متعادلين أو متقاربين، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

وقال تبارك وتعالى وتقدس: {يا أهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرًا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما فى السماوات وما فى الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدًا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعًا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابًا أليمًا ولا يجدون لهم من دون الله وليًا ولا نصيرًا}.

ينهى تعالى أهل الكتاب ومن شابههم عن الغلو والإطراء فى الدين، وهو مجاوزة الحد، فالنصارى لعنهم الله غلوا وأطروا المسيح حتى جاوزوا الحد، فكان الواجب عليهم أن يعتقدوا أنه عبد الله ورسوله وابن أمته العذراء البتول التى أحصنت فرجها، فبعث الله الملك جبريل إليها فنفخ فيها عن أمر الله نفخة حملت منها بولدها عيسى عليه السلام، والذى اتصل بها من الملك هى الروح المضافة إلى الله إضافة تشريف وتكريم، وهى مخلوقة من مخلوقات الله تعالى، كما يقال: بيت الله، وناقة الله، وعبد الله، وكذا روح الله أضيفت إليه تشريفًا لها وتكريمًا، وسمى عيسى بها؛ لأنه كان بها من غير أب، وهى الكلمة أيضًا التى عنها خلق وبسببها وجد، كما قال تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}، وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا سبحانه بل له ما فى السماوات والأرض كل له قانتون بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون}.

التالى