قصة عيسى ابن مريم عليه من الله أفضل الصلاة والسلام

قال الله تعالى فى سورة آل عمران التى أنزل صدرها، وهو ثلاث وثمانون آية منها فى الرد على النصارى، عليهم لعائن الله، الذين زعموا أن لله ولدًا، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وكان قد قدم وفد نجران منهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلوا يذكرون ما هم عليه من الباطل من التثليث فى الأقانيم، ويدعون بزعمهم أن الله ثالث ثلاثة، وهم: الذات المقدسة، وعيسى ومريم على اختلاف فرقهم، فأنزل الله عز وجل صدر هذه السورة، بين فيها أن عيسى عبد من عباد الله، خلقه وصوره فى الرحم كما صور غيره من المخلوقات، وإنه خلقه من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم، وقال له: كن فكان، سبحانه وتعالى، وبين أصل ميلاد أمه مريم، وكيف كان من أمرها، وكيف حملت بولدها عيسى، وكذلك بسط ذلك فى سورة مريم، كما سنتكلم على ذلك كله بعون الله وحسن توفيقه وهدايته.

فقال تعالى وهو أصدق القائلين: {إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم إذ قالت امرأة عمران رب إنى نذرت لك ما فى بطنى محررًا فتقبل منى إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إنى وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإنى سميتها مريم وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يزرق من يشاء بغير حساب}.

يذكر تعالى أنه اصطفى آدم عليه السلام والخلص من ذريته، المتبعين شرعه، الملازمين طاعته، ثم خصص فقال: {وآل إبراهيم}، فدخل فيهم بنو إسماعيل وبنو إسحاق، ثم ذكر فضل هذا البيت الطاهر الطيب وهم آل عمران، والمراد بعمران هذا والد مريم عليها السلام. وقال محمد بن إسحاق: وهو عمران بن باشم بن أمون بن ميشا بن حزقيا ابن أحريق بن موثم بن عزازيا بن أمصيا بن ياوش بن أحريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إيشا بن إيان بن رحبعام بن سليمان بن داود.

وقال أبو القاسم ابن عساكر: مريم بنت عمران بن ماثان بن العازر بن اليود بن إخنر ابن صادوق بن عيازوز بن الياقيم بن أيبود بن زريابيل بن شالتال بن يوحينا بن برشا بن أمون بن ميشا بن حزقا بن أحاز بن موثام بن عزريا بن يورام بن يوشافاط بن إيشا بن إيبا بن رحبعام بن سليمان بن داود عليه السلام. وفيه مخالفة لما ذكره محمد بن إسحاق، ولا خلاف أنها من سلالة داود عليه السلام، وكان أبوها عمران صاحب صلاة بنى إسرائيل فى زمانه، وكانت أمها وهى حنة بنت فاقود بن قبيل من العابدات، وكان زكريا نبى ذلك الزمان زوج أخت مريم أشياع فى قول الجمهور، وقيل: زوج خالتها أشياع، فالله أعلم.

وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره: أن أم مريم كانت لا تحبل، فرأت يومًا طائرًا يزق فرخًا له، فاشتهت الولد، فنذرت لله إن حملت لتجعلن ولدها محررًا، أى حبيسًا فى خدمة بيت المقدس. قالوا: فحاضت من فورها، فلما طهرت واقعها بعلها فحملت بمريم عليها السلام، فلما وضعتها قالت: {رب إنى وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت}، وقرئ بضم التاء، {وليس الذكر كالأنثى}، أى فى خدمة بيت المقدس، وكانوا فى ذلك الزمان ينذرون لبيت المقدس خدامًا من أولادهم. وقولها: {وإنى سميتها مريم}، استدل به على تسمية المولود يوم يولد.

وكما ثبت فى الصحيحين عن أنس فى ذهابه بأخيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحنك أخاه وسماه عبد الله. وجاء فى حديث الحسن، عن سمرة مرفوعًا: (كل غلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه ويسمى ويحلق رأسه). رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذى، وجاء فى بعض ألفاظه: (ويدمى) بدل (ويسمى)، وصححه بعضهم، والله أعلم.

وقولها: {وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}، قد استجيب لها فى هذا كما تقبل منها نذرها. فقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهرى، عن ابن المسيب، عن أبى هريرة، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخًا من مس الشيطان إياه، إلا مريم وابنها). ثم يقول أبو هريرة: واقرؤا إن شئتم: {وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}. أخرجاه من حديث عبد الرزاق.

ورواه ابن جرير، عن أحمد بن الفرج، عن بقية، عن عبد الله بن الزبيدى، عن الزهرى، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم بنحوه. وقال أحمد أيضًا: حدثنا إسماعيل بن عمر، حدثنا ابن أبى ذؤيب، عن عجلان مولى المشمعل، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (كل مولود من بنى آدم يمسه الشيطان بإصبعه، إلا مريم بنت عمران وابنها عيسى). تفرد به من هذا الوجه.

ورواه مسلم، عن أبى الطاهر، عن ابن وهب، عن عمر بن الحارث، عن أبى يونس، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم بنحوه. وقال أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا حفص بن ميسرة، عن العلاء، عن أبيه، عن أبى هريرة، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان فى حضينه، إلا ما كان من مريم وابنها، ألم تر إلى الصبى حين يسقط كيف يصرخ؟)، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (ذلك حين يلكزه الشيطان بحضينه). وهذا على شرط مسلم، ولم يخرجه من هذا الوجه. ورواه قيس، عن الأعمش، عن أبى صالح، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرة أو عصرتين، إلا عيسى ابن مريم ومريم)، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : {وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}.

وكذا رواه محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم بأصل الحديث. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الملك، حدثنا المغيرة، هو ابن عبد الله الحزامى، عن أبى الزناد، عن الأعرج، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (كل بنى آدم يطعن الشيطان فى جنبه حين يولد، إلا عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن فى الحجاب). وهذا على شرط الصحيحين، ولم يخرجوه من هذا الوجه. وقوله: {فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا وكفلها زكريا}.

ذكر كثير من المفسرين أن أمها حين وضعتها لفتها فى خروقها، ثم خرجت بها إلى المسجد فسلمتها إلى العباد الذين هم مقيمون به، وكانت ابنة إمامهم وصاحب صلاتهم، فتنازعوا فيها، والظاهر أنها إنما سلمتها إليهم بعد رضاعها وكفالة مثلها فى صغرها، ثم لما دفعتها إليهم تنازعوا فى أيهم يكفلها، وكان زكريا نبيهم فى ذلك الزمان، وقد أراد أن يستبد بها دونهم من أجل أن زوجته اختها، أو خالتها، على القولين، فشاحوه فى ذلك وطلبوا أن يقترع معهم، فساعدته المقادير فخرجت قرعته غالبة لهم، وذلك أن الخالة بمنزلة الأم.

قال الله تعالى: {وكفلها زكريا}، أى بسبب غلبه لهم فى القرعة، كما قال تعالى: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون}. قالوا: وذلك أن كلا منهم ألقى قلمه معروفًا به، ثم حملوها ووضعوها فى موضع وأمروا غلامًا لم يبلغ الحنث، فأخرج واحدًا منها، وظهر قلم زكريا عليه السلام، فطلبوا أن يقترعوا مرة ثانية وأن يكون ذلك بأن يلقوا أقلامهم فى النهر، فأيهم جرى قلمه على خلاف جريه فى الماء فهو الغالب ففعلوا، فكان قلم زكريا هو الذى جرى على خلاف جرية الماء وسارت أقلامهم مع الماء، ثم طلبوا منه أن يقترعوا ثالثة، فأيهم جرى قلمه مع الماء ويكون بقية الأقلام قد انعكس سيرها صعدًا فهو الغالب ففعلوا، فكان زكريا هو الغالب لهم، فكفلها إذ كان أحق بها شرعًا وقدرًا لوجوه عديدة.

قال الله تعالى: {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب}. قال المفسرون: اتخذ لها زكريا مكانًا شريفًا من المسجد لا يدخله سواه، فكانت تعبد الله فيه وتقوم بما يجب عليها من سدانة البيت إذا جاءت نوبتها، وتقوم بالعبادة ليلها ونهارها حتى صارت يضرب بها المثل بعبادتها فى بنى إسرائيل، واشتهرت بما ظهر عليها من الأحوال الكريمة والصفات الشريفة، حتى أنه كان نبى الله زكريا كلما دخل عليها موضع عبادتها يجد عندها رزقًا غريبًا فى غير أوانه، فكان يجد عندها فاكهة الصيف فى الشتاء وفاكهة الشتاء فى الصيف، فيسألها: {أنى لك هذا}، فتقول: {هو من عند الله}، أى رزق رزقنيه الله، {إن الله يرزق من يشاء بغير حساب}، فعند ذلك وهنالك طمع زكريا فى وجود ولد من صلبه وإن كان قد أسن وكبر، {قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء}.

قال بعضهم: قال: يا من يرزق مريم الثمر فى غير أوانه، هب لى ولدًا وإن كان فى غير أوانه، فكان من خبره وقضيته ما قدمنا ذكره فى قصته، {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا مريم اقنتى لربك واسجدى واركعى مع الراكعين ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهًا فى الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس فى المهد وكهلاً ومن الصالحين قالت رب أنى يكون لى ولد ولم يمسسنى بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون ويعلمه الكتاب والحكمة والتوارة والإنجيل ورسولاً إلى بنى إسرائيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون فى بيوتكم إن فى ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ومصدقًا لما بين يدى من التوراة ولأحل لكم بعض الذى حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربى وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم}.

يذكر تعالى أن الملائكة بشرت مريم باصطفاء الله لها من بين سائر نساء عالمى زمانها بأن اختارها لإيجاد ولد منها من غير أب، وبشرت بأن يكون نبيًا شريفاً {يكلم الناس فى المهد}، أى فى صغره، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وكذلك فى حال كهولته، فدل على أنه يبلغ الكهولة ويدعو إلى الله فيها، وأمرت بكثرة العبادة والقنوت والسجود والركوع لتكون أهلاً لهذه الكرامة، ولتقوم بشكر هذه النعمة، فيقال: إنها كانت تقوم فى الصلاة حتى تفطرت قدماها، رضى الله عنها ورحمها ورحم أمها وأباها، فقول الملائكة: {يا مريم إن الله اصطفاك}، أى اختارك واجتباك {وطهرك}، أى من الأخلاق الرذيلة وأعطاك الصفات الجميلة، {واصطفاك على نساء العالمين} يحتمل أن يكون المراد عالمى زمانها، كقوله لموسى: إنى اصطفيتك على الناس، وكقوله عن بنى إسرائيل: {ولقد اخترناهم على علم على العالمين}.

ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام أفضل من موسى، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل منهما، وكذلك هذه الأمة أفضل من سائر الأمم قبلها، وأكثر عددًا وأفضل علمًا وأزكى عملاً من بنى إسرائيل وغيرهم، ويحتمل أن يكون قوله: {واصطفاك على نساء العالمين} محفوظ العموم، فتكون أفضل نساء الدنيا ممن كان قبلها ووجد بعدها؛ لأنها إن كانت نبية على قول من يقول بنبوتها ونبوة سارة أم إسحاق ونبوة أم موسى محتجًا بكلام الملائكة والوحى إلى أم موسى، كما يزعم ذلك ابن حزم وغيره، فلا يمتنع على هذا أن تكون مريم أفضل من سارة وأم موسى؛ لعموم قوله: {واصطفاك على نساء العالمين}، إذ لم يعارضه غيره، والله أعلم.

وأما قول الجمهور كما قد حكاه أبو الحسن الأشعرى وغيره عن أهل السنة والجماعة: من أن النبوة مختصة بالرجال وليس فى النساء نبية، فيكون أعلى مقامات مريم كما قال الله تعالى: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة}، فعلى هذا لا يمتنع أن تكون أفضل الصديقات المشهورات ممن كان قبلها وممن يكون بعدها، والله أعلم. وقد جاء ذكرها مقرونًا مع آسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، رضى الله عنهن وأرضاهن.

وقد روى الإمام أحمد والبخارى ومسلم والترمذى والنسائى من طرق عديدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، عن علىَّ بن أبى طالب، رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد). وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (حسبك من نساء العالمين بأربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد). ورواه الترمذى، عن أبى بكر ابن زانجويه، عن عبد الرزاق به.

وصححه ورواه ابن مردويه من طريق عبد الله بن أبى جعفر الرازى وابن عساكر من طريق تميم بن زياد، كلاهما عن أبى جعفر الرازى، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد رسول الله).

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهرى، عن ابن المسيب، قال: كان أبو هريرة يحدث أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش أحناه على ولد فى صغره، وأرعاه لزوج فى ذات يده). قال أبو هريرة: ولم تركب مريم بعيرًا قط. وقد رواه مسلم فى صحيحه، عن محمد بن رافع وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق به.

وقال أحمد: حدثنا زيد بن الجباب، حدثنى موسى بن علىَّ، سمعت أبى يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد فى صغره، وأرأفه بزوج على قلة ذات يده). قال أبو هريرة: وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابنة عمران لم تركب الإبل. تفرد به، وهو على شرط الصحيح، ولهذا الحديث طرق أخر عن أبى هريرة.

وقال أبو يعلى الموصلى: حدثنا زهير، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا داود بن أبى الفرات، عن علباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الأرض أربع خطوط، فقال: (أتدرون ما هذا؟)، قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون). ورواه النسائى من طرق عن داود أبى هند.

وقد رواه ابن عساكر من طريق أبى بكر عبد الله بن أبى داود سليمان بن الأشعث: حدثنا يحيى بن حاتم العسكرى، نبأنا بشر بن مهران بن حمدان، حدثنا محمد بن دينار، عن داود بن أبى هند، عن الشعبى، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (حسبك منهن أربع سيدات نساء العالمين: فاطمة بنت محمد، وخديجة بنت خويلد، وآسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران).

وقال أبو القاسم البغوى: حدثنا وهب بن منبه، حدثنا خالد بن عبد الله الواسطى، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن عائشة أنها قالت لفاطمة: أرأيت حين أكببت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكيت ثم ضحكت؟ قالت: اخبرنى أنه ميت من وجعه هذا فبكيت ثم أكببت عليه فأخبرنى أنى أسرع أهله لحوقًا به وأنى سيدة نساء أهل الجنة، إلا مريم بنت عمران فضحكت. وأصل هذا الحديث فى الصحيح، وهذا إسناد على شرط مسلم، وفيه: أنهما أفضل الأربع المذكورات.

وهكذا الحديث الذى رواه الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن محمد، حدثنا جرير، عن يزيد، هو ابن أبى زياد، عن عبد الرحمن بن أبى نعيم، عن أبى سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، إلا ما كان من مريم بنت عمران). إسناد حسن. وصححه الترمذى ولم يخرجوه. وقد روى نحوه من حديث علىَّ بن أبى طالب، ولكن فى إسناده ضعف.

والمقصود: أن هذا يدل على أن مريم وفاطمة أفضل هذه الأربع، ثم يحتمل الاستثناء أن تكون مريم أفضل من فاطمة، ويحتمل أن يكونا على السواء فى الفضيلة، لكن ورد حديث إن صح عين الاحتمال الأول، فقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: أنبأنا أبو الحسن بن الفرا وأبو غالب وأبو عبد الله ابنا البنا، قالوا: أنبأنا أبو جعفر بن المسلمة، أنبأنا أبو طاهر المخلص، حدثنا أحمد بن سليمان، حدثنا الزبير، هو ابن بكار، حدثنا محمد بن الحسن، عن عبد العزيز بن محمد، عن موسى بن عقبة، عن كريم، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران، ثم فاطمة، ثم خديجة، ثم آسية امرأة فرعون). فإن كان هذا اللفظ محفوظًا بثم التى للترتيب، فهو مبين لأحد الاحتمالين اللذين دل عليهما الاستثناء، وتقدم على ما تقدم من الألفاظ التى وردت بواو العطف التى لا تقتضى الترتيب ولا تنفيه، والله أعلم.

وقد روى هذا الحديث أبو حاتم الرازى، عن داود الجعفرى، عن عبد العزيز بن محمد، وهو الدراوردى، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس مرفوعًا، فذكره بواو العطف لا بثم الترتيبية، فخالفه إسنادًا ومتنًا، فالله أعلم.

فأما الحديث الذى رواه ابن مردويه من حديث شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام).

وهكذا الحديث الذى رواه الجماعة، إلا أبا داود من طرق، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن مرة الهمدانى، عن أبى موسىالأشعرى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام). فإنه حديث صحيح كما ترى اتفق الشيخان على إخراجه، ولفظه يقتضى حصر الكمال فى النساء فى مريم وآسية، ولعل المراد بذلك فى زمانهما، فإن كلا منهما كفلت نبيًا فى حال صغره، فآسية كفلت موسى الكليم، ومريم كفلت ولدها عبد الله ورسوله، فلا ينفى كمال غيرهما فى هذه الأمة كخديجة وفاطمة، فخديجة خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة خمسة عشر سنة وبعدها أزيد من عشر سنين، وكانت له وزير صدق بنفسها ومالها، رضى الله عنها وأرضاها.

وأما فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنها خصت بمزيد فضيلة على أخواتها؛ لأنها أصيبت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبقية أخواتها متن فى حيـاة النبى صلى الله عليه وسلم ، وأما عائشة فإنها كانت أحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يتزوج بكرًا غيرها، ولا يعرف فى سائر النساء فى هذه الأمة، بل ولا فى غيرها، أعلم منها ولا أفهم، وقد غار الله لها حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فأنزل براءتها من فوق سبع سماوات، وقد عمرت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبًا من خمسين سنة تبلغ عنه القرآن والسنة وتفتى المسلمين وتصلح بين المختلفين، وهى أشرف أمهات المؤمنين، حتى خديجة بنت خويلد أم البنات والبنين، فى قول طائفة من العلماء السابقين واللاحقين والأحسم الوقف فيهما رضى الله عنهما، وما ذاك إلا لأن قوله صلى الله عليه وسلم : (وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)، يحتمل أن يكون عامًا بالنسبة إلى المذكورات وغيرهن، ويحتمل أن يكون عامًا بالنسبة إلى ما عدا المذكورات، والله أعلم.

والمقصود: هاهنا ذكر ما يتعلق بمريم بنت عمران عليها السلام، فإن الله طهرها واصطفاها على نساء عالمى زمانها، ويجوز أن يكون تفضيلها على النساء مطلقًا كما قدمنا، وقد ورد فى حديث: أنها تكون من أزواج النبى صلى الله عليه وسلم فى الجنة هى وآسية بنت مزاحم، وقد ذكرنا فى التفسير عن بعض السلف أنه قال ذلك، واستأنس بقوله: ثيبات وأبكارًا، قال: فالثيب آسية، ومن الأبكار مريم بنت عمران، وقد ذكرناه فى آخر سورة التحريم، فالله أعلم.

قال الطبرانى: حدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا محمد بن سعد العوفى، حدثنا أبى، أنبأنا عمى الحسين، حدثنا يونس بن نفيع، عن سعد بن جنادة، هو العوفى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله زوجنى فى الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى). وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إبراهيم بن عرعرة، حدثنا عبد النور بن عبد الله، حدثنا يونس بن شعيب، عن أبى أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أشعرت أن الله زوجنى مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكلثم أخت موسى). رواه ابن جعفر العقيلى من حديث عبد النور به، وزاد فقلت: هنيئًا لك يا رسول الله. ثم قال العقيلى: وليس بمحفوظ.

وقال الزبير بن بكار: حدثنى محمد بن الحسن، عن يعلى بن المغيرة، عن ابن أبى داود، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة وهى فى مرضها الذى توفيت فيه، فقال لها: (بالكره منى ما أرى منك يا خديجة، وقد يجعل الله فى الكره خيرًا كثيرًا، أما علمت أن الله قد زوجنى معك فى الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون)، قالت: وقد فعل الله بك ذلك يا رسول الله؟ قال: (نعم)، قالت: بالرفاء والبنين.

وروى ابن عساكر من حديث محمد بن زكريا الغلابى: حدثنا العباس بن بكار، حدثنا أبو بكر الهزلى، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهى فى مرض الموت، فقال: (يا خديجة، إذا لقيت ضرائرك فاقرئهن منى السلام)، قالت: يا رسول الله، وهل تزوجت قبلى؟ قال: (لا، ولكن الله زوجنى مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكلثم أخت موسى).

 

التالى