ذكر جماعة من أنبياء بنى إسرائيل بعد موسى عليه السلام

ثم نتبعهم بذكر داود وسليمان عليهما السلام

قال ابن جرير فى تاريخه: لا خلاف بين أهل العلم بأخبار الماضين وأمور السالفين من أمتنا وغيرهم، أن القائم بأمور بنى إسرائيل بعد يوشع كالب بن يوفنا، يعنى أحد أصحاب موسى عليه السلام، وهو زوج أخته مريم، وهو أحد الرجلين اللذين ممن يخافون الله، وهما يوشع وكالب، وهما القائلان لبنى إسرائيل حين نكلوا عن الجهاد: {ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}. قال ابن جرير: ثم من بعده كان القائم بأمور بنى إسرائيل، حزقيل بن يوذى، وهو الذى دعا الله فأحيا الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت

 

قصة حزقيل

قال الله تعالى: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون}. قال محمد بن إسحاق: عن وهب بن منبه، إن كالب بن يوفنا لما قبضه الله إليه بعد يوشع، خلف فى بنى إسرائيل حزقيل بن بوذى، وهو ابن العجوز، وهو الذى دعا للقوم الذين ذكرهم الله فى كتابه فيما بلغنا: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت}. قال ابن إسحاق: فروا من الوباء، فنزلوا بصعيد من الأرض، فقال لهم الله: {موتوا}، فماتوا جميعًا، فحظروا عليهم حظيرة دون السباع، فمضت عليهم دهور طويلة، فمر بهم حزقيل عليه السلام، فوقف عليهم متفكرًا، فقيل له: أتحب أن يبعثهم الله وأنت تنظر؟ فقال: نعم، فأمر أن يدعو تلك العظام أن تكتسى لحمًا، وأن يتصل العصب بعضه ببعض، فناداهم عن أمر الله له بذلك، فقام القوم أجمعون وكبروا تكبيرة رجل واحد.

وقال أسباط: عن السدى، عن أبى مالك، وعن أبى صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن أناس من الصحابة فى قوله: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم}، قالوا: كانت قرية يقال لها: داوردان قبل واسط، وقع بها الطاعون، فهرب عامة أهلها، فنزلوا ناحية منها، فهلك من بقى فى القرية وسلم الآخرون، فلم يمت منهم كثير، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا، لو صنعنا كما صنعوا بقينا، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم، فوقع فى قابل، فهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفًا، حتى نزلوا ذلك المكان، وهو واد أفيح، فناداهم ملك من أسفل الوادى وآخر من أعلاه: أن موتوا، فماتوا حتى إذا هلكوا وبقيت أجسادهم مر بهم نبى يقال له: حزقيل.

فلما رآهم وقف عليهم، فجعل يتفكر فيهم ويلوى شدقيه وأصابعه، فأوحى الله إليه: تريد أن أريك كيف أحييهم؟ قال: نعم، وإنما كان تفكره أنه تعجب من قدرة الله عليهم، فقيل له: ناد، فنادى: يا أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تجتمعى، فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض حتى كانت أجسادًا من عظام، ثم أوحى الله إليه أن ناد: يا أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تكتسى لحمًا، فاكتست لحمًا ودمًا وثيابها التى ماتت فيها، ثم قيل له: ناد، فنادى: أيتها الأجساد، إن الله يأمرك أن تقومى، فقاموا.

قال أسباط: فزعم منصور عن مجاهد، أنهم قالوا حين أُحيوا: سبحانك اللهم وبحمدك لا اله إلا أنت، فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى، سحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوبًا إلا عاد رسمًا، حتى ماتوا لآجالهم التى كتبت لهم. وعن ابن عباس: أنهم كانوا أربعة آلاف، وعنه: ثمانية آلاف، وعن أبى صالح: تسعة آلاف، وعن ابن عباس أيضًا: كانوا أربعين ألفًا، وعن سعيد بن عبد العزيز: كانوا من أهل أذرعات. وقال ابن جريج عن عطاء: هذا مثل، يعنى أنه سيق مثلاً مبينًا أنه لن يغنى حذر من قدر. وقول الجمهور أقوى، أن هذا وقع.

وقد روى الإمام أحمد وصاحبا الصحيح من طريق الزهرى، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن عبد الله بن عباس: أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ، لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة ابن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء وقع بالشام، فذكر الحديث، يعنى فى مشاورته المهاجرين والأنصار، فاختلفوا عليه، فجاءه عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيبًا ببعض حاجته، فقال: إن عندى من هذا علمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا كان بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه، وإذا سمعتم به بأرض، فلا تقدموا عليه ) فحمد الله عمر، ثم انصرف.

وقال الإمام: حدثنا حجاج ويزيد المفتى، قالا: حدثنا ابن أبى ذؤيب، عن الزهرى، عن سالم، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، أن عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر وهو فى الشام، عن النبى صلى الله عليه وسلم ( أن هذا السقم عذب به الأمم قبلكم، فإذا سمعتم به فى أرض، فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه ) قال: فرجع عمر من الشام. وأخرجاه من حديث مالك، عن الزهرى بنحوه.

قال محمد بن إسحاق: ولم يذكر لنا مدة لبث حزقيل فى بنى إسرائيل، ثم إن الله قبضه إليه، فلما قبض نسى بنو إسرائيل عهد الله إليهم، وعظمت فيهم الأحداث، وعبدوا الأوثان، وكان فى جملة ما يعبدونه من الأصنام صنم يقال له: بعل، فبعث الله إليهم إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران. قلت: وقد قدمنا قصة إلياس تبعًا لقصة الخضر؛ لأنهما يقرنان فى الذكر غالبًا؛ ولأجل أنها بعد قصة موسى فى سورة الصافات، فتعجلنا قصته لذلك، والله أعلم. قال محمد بن إسحاق فيما ذكر له عن وهب بن منبه، قال: ثم تنبأ فيهم بعد إلياس وصيه اليسع بن أخطوب عليه السلام،

قصة اليسع عليه السلام

وقد ذكره الله تعالى مع الأنبياء فى سورة الأنعام فى قوله: {وإسماعيل واليسع ويونس ولوطًا وكلا فضلنا على العالمين} وقال تعالى فى سورة ص: {واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار}. قال إسحاق بن بشر أبو حذيفة: أنبأنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، قال: كان بعد إلياس اليسع عليهما السلام، فمكث ما شاء الله أن يمكث يدعوهم إلى الله مستمسكًا بمنهاج إلياس وشريعته، حتى قبضه الله عز وجل إليه، ثم خلف فيهم الخلوف، وعظمت فيهم الأحداث والخطايا، وكثرت الجبابرة وقتلوا الأنبياء، وكان فيهم ملك عنيد طاغ ويقال: إنه الذى تكفل له ذو الكفل، إن هو تاب ورجع دخل الجنة، فسمى ذا الكفل.

قال محمد بن إسحاق: هو اليسع بن أخطوب، وقال الحافظ أبو القسم ابن عساكر فى حرف الياء من تاريخه: اليسع، وهو الأسباط بن عدى بن شوتلم بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، ويقال: هو ابن عم إلياس النبى عليهما السلام، ويقال: كان مستخفيًا معه بجبل قاسيون من ملك بعلبك، ثم ذهب معه إليهما، فلما رفع إلياس خلفه اليسع فى قومه ونبأه الله بعده. ذكر ذلك عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه، عن وهب بن منبه، قال: وقال غيره: وكان ببانياس، ثم ذكر ابن عساكر قراءة من قرأ: اليسع، بالتخفيف وبالتشديد، ومن قرأ: والليسع، وهو اسم واحد لنبى من الأنبياء. قلت: قد قدمنا قصة ذا الكفل بعد قصة أيوب عليهما السلام؛ لأنه قد قيل: إنه ابن أيوب، فالله أعلم.

 

قال ابن جرير وغيره: ثم مرج أمر بنى إسرائيل وعظمت منهم الخطوب والخطايا، وقتلوا من قتلوا من الأنبياء، وسلط الله عليهم بدل الأنبياء ملوكًا جبارين يظلمونهم ويسفكون دماءهم، وسلط الله عليهم الأعداء من غيرهم أيضًا، وكانوا إذا قاتلوا أحدًا من الأعداء، يكون معهم تابوت الميثاق الذى كان فى قبة الزمان، كما تقدم ذكره، فكانوا ينصرون ببركته وبما جعل الله فيه من السكينة والبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، فلما كان فى بعض حروبهم مع أهل غزة وعسقلان، غلبوهم وقهروهم على أخذه، فانتزعوه من أيديهم، فلما علم بذلك ملك بنى إسرائيل فى ذلك الزمان مالت عنقه، فمات كمدًا وبقى بنو إسرائيل كالغنم بلا راع، حتى بعث الله فيهم نبيًا من الأنبياء يقال له: شمويل، فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكًا ليقاتلوا معه الأعداء، فكان من أمرهم ما سنذكره مما قص الله فى كتابه.

قال ابن جرير: فكان من وفاة يوشع بن نون، أن بعث الله عز وجل شمويل بن بالى أربعمائة سنة وستون سنة، ثم ذكر تفصيلها بمدد الملوك الذين ملكوا عليهم وسماهم واحدًا واحدًا، تركنا ذكرهم قصدًا.

قصة شمويل وفيها بدأ أمر داود عليهما السلام

هو: شمويل، ويقال له: أشمويل بن بالى بن علقمة بن يرخام بن اليهو بن تهو بن صوف بن علقمة بن ماحث بن عموصا بن عزريا. قال مقاتل: وهو من ورثة هارون. وقال مجاهد: هو أشمويل بن هلفاقا، ولم يرفع فى نسبه أكثر من هذا، فالله أعلم.

حكى السدى بإسناده، عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة والثعلبى وغيرهم: أنه لما غلبت العمالقة من أرض غزة وعسقلان على بنى إسرائيل، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وسبوا من أبنائهم جمعًا كثيرًا، وانقطعت النبوة من سبط لاوى، ولم يبق فيهم إلا امرأة حبلى، فجعلت تدعو الله عز وجل أن يرزقها ولدًا ذكرًا، فولدت غلامًا، فسمته أشمويل، ومعناه بالعبرانية إسماعيل، أى سمع الله دعائى، فلما ترعرع بعثته إلى المسجد وأسلمته عند رجل صالح فيه يكون عنده ليتعلم من خيره وعبادته، فكان عنده، فلما بلغ أشده بينما هو ذات ليلة نائم إذا صوت يأتيه من ناحية المسجد، فانتبه مذعورًا، فظنه الشيخ يدعوه، فسأله: أدعوتنى؟ فكره أن يفزعه، فقال: نعم نم، فنام ثم ناداه الثانية فكذلك ثم الثالثة، فإذا جبريل يدعوه فجاءه فقال: إن ربك قد بعثك إلى قومك، فكان من أمره معهم ما قص الله فى كتابه.

قال الله تعالى فى كتابه العزيز: {ألم تر إلى الملأ من بنى إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبى لهم ابعث لنا ملكًا نقاتل فى سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل فى سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكًا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة فى العلم والجسم والله يؤتى ملكه من يشاء والله واسع عليم وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن فى ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فإنه منى إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلاً منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرًا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين}.

قال أكثر المفسرين: كان نبى هؤلاء القوم المذكورين فى هذه القصة هو شمويل، وقيل: شمعون، وقيل: هما واحد، وقيل: يوشع، وهذا بعيد لما ذكره الإمام أبو جعفر بن جرير فى تاريخه: أن بين موت يوشع وبعثة شمويل أربعمائة وستين سنة، فالله أعلم.

والمقصود: أن هؤلاء القوم لما أنهكتهم الحروب وقهرهم الأعداء، سألوا نبى الله فى ذلك الزمان، وطلبوا منه أن ينصب لهم ملكًا يكونون تحت طاعته؛ ليقاتلوا من ورائه ومعه وبين يديه الأعداء، فقال لهم: {هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل فى سبيل الله} أى: وأى شىء يمنعنا من القتال، {وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا}، يقولون: نحن محروبون موتورون، فحقيق لنا أن نقاتل عن أبنائنا المقهورين المستضعفين فيهم، المأسورين فى قبضتهم. قال تعالى: {فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين}، كما ذكر فى آخر القصة: أنه لم يجاوز النهر مع الملك إلا القليل، والباقون رجعوا ونكلوا عن القتال، {وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكًا}. قال الثعلبى: وهو طالوت بن قيش بن أفيل بن صارو بن تحورت بن أفيح بن أنيس بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل.

قال عكرمة والسدى: كان سقاءًا. وقال وهب بن منبه: كان دباغًا، وقيل غير ذلك، فالله أعلم. ولهذا قالوا: {أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال}، وقد ذكروا أن النبوة كانت فى سبط لاوى، وأن الملك كان فى سبط يهوذا، فلما كان هذا من سبط بنيامين، نفروا منه وطعنوا فى إمارته عليهم، وقالوا: {نحن أحق بالملك منه}، وذكروا أنه فقير لا سعة من المال معه، فكيف يكون مثل هذا ملكًا؟ {قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة فى العلم والجسم}، قيل: كان الله قد أوحى إلى شمويل أن أى بنى إسرائيل كان طوله على طول هذه العصا، وإذا حضر عندك يفور هذا القرن الذى فيه من دهن القدس فهو ملكهم، فجعلوا يدخلون ويقيسون أنفسهم بتلك العصا، فلم يكن أحد منهم على طولها سوى طالوت، ولما حضر عند شمويل فار ذلك القرن، فدهنه منه، وعينه الملك عليهم، وقال لهم: {إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة فى العلم}، قيل: فى أمر الحروب، وقيل: بل مطلقًا {والجسم} قيل: الطول، وقيل: الجمال، والظاهر من السياق أنه كان أجملهم وأعلمهم بعد نبيهم عليه السلام، {والله يؤتى ملكه من يشاء} فله الحكم وله الخلق والأمر {والله واسع عليم وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن فى ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين}.

وهذا أيضًا من بركة ولاية هذا الرجل الصالح عليهم ويمنه عليهم، أن يرد الله عليهم التابوت الذى كان سلب منهم، وقهرهم الأعداء عليه، وقد كانوا ينصرون على أعدائهم بسببه {فيه سكينة من ربكم} قيل: طشت من ذهب كان يغسل فيه صدور الأنبياء، وقيل: السكينة مثل الريح الحجوج، وقيل: صورتها مثل الهرة إذا صرخت فى حال الحرب، أيقن بنو إسرائيل بالنصر {وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون} قيل: كان فيه رضاض الألواح وشىء من المن الذى كان نزل عليهم بالتيه {تحمله الملائكة} أى تأتيكم به الملائكة يحملونه وأنتم ترون ذلك عيانًا، ليكون آية لله عليكم وحجة باهرة على صدق ما أقوله لكم، وعلى صحة ولاية هذا الملك الصالح عليكم، ولهذا قال: {إن فى ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين}، وقيل: إنه لما غلب العمالقة على هذا التابوت، وكان فيه ما ذكر من السكينة والبقية المباركة، وقيل: كان فيه التوراة أيضًا.

فلما استقر فى أيديهم، وضعوه تحت صنم لهم بأرضهم، فلما أصبحوا إذا التابوت على رأس الصنم، فوضعوه تحته، فلما كان اليوم الثانى، إذا التابوت فوق الصنم، فلما تكرر هذا علموا أن هذا أمر من الله تعالى، فأخرجوه من بلدهم وجعلوه فى قرية من قراهم، فأخذهم داء فى رقابهم، فلما طال عليهم هذا، جعلوه فى عجلة وربطوها فى بقرتين وأرسلوهما، فيقال: إن الملائكة ساقتهما حتى جاؤا بهما ملأ بنى إسرائيل، وهم ينظرون كما أخبرهم نبيهم بذلك، فالله أعلم على أى صفة جاءت به الملائكة، والظاهر أن الملائكة كانت تحمله بأنفسهم كما هو المفهوم بالجنود من الآية، والله أعلم، وإن كان الأول قد ذكره كثير من المفسرين أو أكثرهم، {فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فإنه منى إلا من اغترف غرفة بيده}.

قال ابن عباس وكثير من المفسرين: هذا النهر هو نهر الأردن، وهو المسمى بالشريعة، فكان من أمر طالوت بجنوده عند هذا النهر عن أمر نبى الله له عن أمر الله له إختبارا وامتحانا، أن من شرب من هذا النهر فلا يصحبنى فى هذه الغزوة، ولا يصحبنى إلا من لم يطعمه إلا غرفة فى يده. قال الله تعالى: {فشربوا منه إلا قليلاً منهم}.

قال السدى: كان الجيش ثمانين ألفًا فشرب منه ستة وسبعون ألفًا، فبقى معه أربعة آلاف. كذا قال. وقد روى البخارى فى صحيحه من حديث إسرائيل وزهير والثورى، عن أبى إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوز معه إلا بضعة عشر وثلاثمائة مؤمن، وقول السدى: إن عدة الجيش كانوا ثمانين ألفًا، فيه نظر؛ لأن أرض بيت المقدس لا تحتمل أن يجتمع فيها جيش مقاتلة يبلغون ثمانين ألفًا، والله أعلم.

قال الله تعالى: {فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طافة لنا اليوم بجالوت وجنوده}، أى استقلوا أنفسهم واستضعفوها عن مقاومة أعدائهم بالنسبة إلى قلتهم وكثرة عدد عدوهم، {قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}، يعنى بها الفرسان منهم، والفرسان أهل الإيمان والإيقان الصابرون على الجلاد والجدال والطعان، {ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرًا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين}، طلبوا من الله أن يفرغ عليهم الصبر، أى يغمرهم به من فوقهم، فتستقر قلوبهم ولا تقلق، وأن يثبت أقدامهم فى مجال الحرب ومعترك الأبطال وحومة الوغى والدعاء إلى النزال، فسألوا التثبت الظاهر والباطن، وأن ينزل عليهم النصر على أعدائهم وأعدائه من الكافرين الجاحدين بآياته وآلائه، فأجابهم العظيم القدير السميع البصير الحكيم الخبير إلى ما سألوا، وأنالهم ما إليه فيه رغبوا؛ ولهذا قال: {فهزموهم بإذن الله}، أى بحول الله لا

بحولهم، وبقوة الله ونصره لا بقوتهم وعددهم، مع كثرة أعدائهم وكمال عددهم، كما قال تعالى: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون}، وقوله تعالى: {وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء} فيه دلالة على شجاعة داود عليه السلام، وأنه قتله قتلاً أذل به جنده وكسره، ولا أعظم من غزوة يقتل فيها ملك عدوه فيغنم بسبب ذلك الأموال الجزيلة، ويأسر الأبطال والشجعان والأقران، وتعلو كلمة الإيمان على الأوثان، ويدال لأولياء الله على أعدائه، ويظهر الدين الحق على الباطل وأوليائه.

وقد ذكر السدى فيما يرويه: أن داود عليه السلام كان أصغر أولاد أبيه، وكانوا ثلاثة عشر ذكرًا، كان سمع طالوت ملك بنى إسرائيل وهو يحرض بنى إسرائيل على قتل جالوت وجنوده، وهو يقول: من قتل جالوت زوجته بابنتى وأشركته فى ملكى، وكان داود عليه السلام يرمى بالقذافة، وهو المقلاع، رميًا عظيمًا، فبينا هو سائر مع بنى إسرائيل، إذ ناداه حجر: أن خذنى، فإن بى تقتل جالوت، فأخذه، ثم حجر آخر كذلك، ثم آخر كذلك، فأخذ الثلاثة فى مخلاته، فلما تواجه الصفان برز جالوت ودعا إلى نفسه، فتقدم إليه داود، فقال له: ارجع، فإنى أكره قتلك، فقال: لكنى أحب قتلك، وأخذ تلك الأحجار الثلاثة، فوضعها فى القذافة، ثم أدارها فصارت الثلاثة حجرًا واحدًا، ثم رمى بها جالوت، ففلق رأسه وفر جيشه منهزمًا، فوفى له طالوت بما وعده، فزوجه ابنته وأجرى حكمه فى ملكه وعظم داود عليه السلام عند بنى إسرائيل، وأحبوه ومالوا إليه أكثر من طالوت.

فذكروا أن طالوت حسده وأراد قتله واحتال على ذلك، فلم يصل إليه، وجعل العلماء ينهون طالوت عن قتل داود، فتسلط عليهم فقتلهم حتى لم يبق منهم إلا القليل، ثم حصل له توبة وندم وإقلاع عما سلف منه، وجعل يكثر من البكاء ويخرج إلى الجبانة، فيبكى حتى يبل الثرى بدموعه، فنودى ذات يوم من الجبانة: أن يا طالوت قتلتنا ونحن أحياء، وآذيتنا ونحن أموات، فازداد لذلك بكاؤه وخوفه واشتد وجله، ثم جعل يسأل عن عالم يسأله عن أمره، وهل له من توبة؟ فقيل له: وهل أبقيت عالمًا؟ حتى دُلّ على امرأة من العابدات، فأخذته فذهبت به إلى قبر يوشع عليه السلام، قالوا: فدعت الله، فقام يوشع من قبره، فقال: أقامت القيامة؟ فقالت: لا، ولكن هذا طالوت يسألك، هل له من توبة؟ فقال: نعم، ينخلع من الملك ويذهب فيقاتل فى سبيل الله حتى يقتل، ثم عاد ميتًا، فترك الملك لداود عليه السلام وذهب ومعه ثلاثة عشر من أولاده، فقاتلوا فى سبيل الله حتى قتلوا، قالوا: فذلك قوله: {وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء}. هكذا ذكره ابن جرير فى تاريخه من طريق السدى بإسناده، وفى بعض هذا نظر ونكارة، والله أعلم.

وقال محمد بن إسحاق: النبى الذى بعث فأخبر طالوت بتوبته هو: اليسع بن أخطوب. حكاه ابن جرير أيضًا، وذكر الثعلبى: أنها أتت به إلى قبر أشمويل، فعاتبه على ما صنع بعده من الأمور، وهذا أنسب، ولعله إنما رآه فى النوم لا أنه قام من القبر حيًا، فإن هذا إنما يكون معجزة لنبى، وتلك المرأة لم تكن نبية، والله أعلم. وزعم أهل التوراة أن مدة ملك طالوت إلى أن قتل مع أولاده أربعون سنة، فالله أعلم.

* * *