بناء قبة الزمان

قال أهل الكتاب: وقد أمر الله موسى عليه السلام بعمل قبة من خشب الشمشاز وجلود الانعام وشعر الأغنام، وأمر بزينتها بالحرير المصبغ والذهب والفضة، على كيفيات مفصلة عند أهل الكتاب، ولها عشر سرادقات، طول كل واحد ثمانية وعشرون ذراعًا، وعرضه أربعة أذرع، ولها أربعة أبواب، وأطناب من حرير ودمقس مصبغ، وفيها رفوف وصفائح من ذهب وفضة، ولكل زاوية بابان، وأبواب أخر كبيرة، وستور من حرير مصبغ، وغير ذلك مما يطول ذكره. وبعمل تابوت من خشب الشمشار يكون طوله ذراعين ونصفا، وعرضه ذراعين، وارتفاعه ذراعا ونصفا، ويكون مضببًا بذهب خالص من داخله وخارجه، وله أربع حلق فى أربع زواياه، ويكون على حافتيه كروبيان من ذهب - يعنون صفة ملكين بأجنحة، وهما متقابلان، صفة رجل اسمه بصليال - وأمراه أن يعمل مائدة من خشب الشمشار، طولها ذراعًا، وعرضها ذراع ونصف، لها ضباب ذهب، وأكليل ذهب بشفة مرتفعة بإكليل من ذهب، وأربع حلق من نواحيها من ذهب، معذرة فى مثل الرمان، من خشب ملبس ذهبًا واعمل صحافًا، ومصافى وقصاعًا على المائدة، واصنع منارة من الذهب، دُلى فيها ست قصبات من ذهب من كل جانب ثلاثة، على كل قصبة ثلاث سرج، وليكن فى المنارة أربع قناديل، ولتكن هى وجميع هذه الآنية من قنطار من ذهب، صنع ذلك بصليال أيضًا، وهو الذى عمل المذبح أيضًا، ونصب هذه القبة أول يوم من سنتهم، وهو أول يوم من الربيع، ونصب تابوت الشهادة وهو، والله أعلم، المذكور فى قوله تعالى: {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن فى ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين} وقد بسط هذا الفصل فى كتابهم مطولاً جدًا، وفيه شرائع لهم وأحكام، وصفة قربانهم وكيفيته، وفيه: أن قبة الزمان كانت موجودة قبل عبادتهم العجل، الذى هو متقدم على مجىء بيت المقدس، وأنها كانت لهم كالكعبة يصلون فيها وإليها ويتقربون عندها، وأن موسى عليه السلام كان إذا دخلها يقفون عندها، وينزل عمود الغمام على بابها، فيخرون عند ذلك سجدًا لله عز وجل، ويكلم الله موسى عليه السلام من ذلك العمود الغمام الذى هو نور، ويخاطبه ويناجيه ويأمره وينهاه، وهو واقف عند التابوت صامد إلى ما بين الكروبين، فإذا فصل الخطاب يخبر بنى إسرائيل بما أوحاه الله عز وجل إليه من الأوامر والنواهى، وإذا تحاكموا إليه فى شىء ليس عنده من الله فيه شىء يجىء إلى قبة الزمان ويقف عند التابوت ويصمد لما بين ذينك الكروبين، فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك الحكومة، وقد كان هذا مشروعًا لهم فى زمانهم، أعنى استعمال الذهب والحرير المصبغ واللآلىء فى معبدهم وعند مصلاهم، فأما فى شريعتنا فلا، بل قد نهينا عن زخرفة المساجد وتزيينها لئلا تشغل المصلين، كما قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه لما وسع فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للذى وكله على عمارته: ابن للناس ما يكنهم، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس. وقال ابن عباس: لنزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى كنائسهم. وهذا من باب التشريف والتكريم والتنزيه، فهذه الأمة غير مشابهة من كان قبلهم من الأمم، إذ جمع الله همهم فى صلاتهم على التوجه إليه والإقبال عليه، وصان أبصارهم وخواطرهم عن الإشتغال والتفكر فى غير ما هم بصدده من العبادة العظيمة، فلله الحمد والمنة.

وقد كانت قبة الزمان هذه مع بنى إسرائيل فى التيه يصلون إليها، وهى قبلتهم وكعبتهم، وإمامهم كليم الله موسى عليه السلام، ومقدم القربان أخوه هارون عليه السلام، فلما مات هارون ثم موسى عليهما السلام استمرت بنو هارون فى الذى كان يليه أبوهم من أمر القربان، وهو فيهم إلى الآن، وقام بأعباء النبوة بعد موسى وتدبير الأمر بعده، فتاه يوشع بن نون عليه السلام، وهو الذى دخل بهم بيت المقدس، كما سيأتى بيانه، والمقصود هنا: أنه لما استقرت يده على البيت المقدس نصب هذه القبة على صخرة بيت المقدس، فكانوا يصلون إليها، فلما بادت صلوا إلى محلتها وهى الصخرة، فلهذا كانت قبلة الأنبياء بعده إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد صلى إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، وكان يجعل الكعبة بين يديه، فلما هاجر أمر بالصلاة إلى بيت المقدس، فصلى إليها ستة عشر، وقيل: سبعة عشر شهرا، ثم حولت القبلة إلى الكعبة، وهى قبلة إبراهيم فى شعبان سنة ثنتين فى وقت صلاة العصر، وقيل: الظهر، كما بسطنا ذلك فى التفسير عند قوله تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها} إلى قوله: {قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام} الآيات.

* * *

قصة قارون مع موسى عليه السلام

قال الله تعالى: {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد فى الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندى أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون فخرج على قومه فى زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون فخسفنا به وبداره الأرض فما كان من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا فى الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين}.

قال الأعمش عن المنهال بن عمرو بن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان قارون ابن عم موسى، وكذا قال إبراهيم النخعى وعبد الله بن الحرث بن نوفل وسماك ابن حرب وقتادة ومالك بن دينار وابن جريج، وزاد فقال: هو قارون بن يصهر بن قاهث. وموسى بن عمران بن هافث، قال ابن جريج: وهذا قول أكثر أهل العلم أنه كان ابن عم موسى، ورد قول ابن إسحاق: إنه كان عم موسى. قال قتادة: وكان يسمى النور، لحسن صوته بالتوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامرى، فأهلكه البغى لكثرة ماله. وقال شهر بن حوشب: زاد فى ثيابه شبرًا طولاً ترفعًا على قومه. وقد ذكر الله تعالى كثرة كنوزه، حتى أن مفاتيحه كان يثقل حملها على الفئام من الرجال الشداد، وقد قيل: إنها كانت من الجلود، وإنها كانت تحمل على ستين بغلا، فالله أعلم.

وقد وعظه النصحاء من قومه قائلين: {لا تفرح} أى لا تبطر، بما أعطيت وتفخر على غيرك {إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة} يقولون: لتكن همتك مصروفة لتحصيل ثواب الله فى الدار الآخرة، فإنه خير وأبقى، ومع هذا: {لا تنس نصيبك من الدنيا} أى وتناول منها بمالك ما أحل الله لك، فتمتع لنفسك بالملاذ الطيبة الحلال {وأحسن كما أحسن الله إليك} أى وأحسن إلى خلق الله كما أحسن الله خالقهم وبارئهم إليك {ولا تبغ الفساد فى الأرض} أى ولا تسىء إليهم، ولا تفسد فيهم، فتقابلهم ضد ما أمرت فيهم، فيعاقبك ويسلبك ما وهبك {إن الله لا يحب المفسدين} فما كان جواب قومه لهذه النصيحة الصحيحة الفصيحة إلا أن {قال إنما أوتيته على علم عندى} يعنى أنا لا أحتاج إلى استعمال ما ذكرتم، ولا إلى ما إليه أشرتم، فإن الله إنما أعطانى هذا لعلمه أنى أستحقه، وأنى أهل له، ولولا أنى حبيب إليه وحظى عنده لما أعطانى ما أعطانى، قال الله تعالى ردا عليه وما ذهب إليه: {أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون} أى قد أهلكنا من الأمم الماضين بذنوبهم وخطاياهم من هو أشد من قارون قوة وأكثر أموالاً وأولادًا، فلو كان ما قال صحيحًا، لم نعاقب أحدًا ممن كان أكثر مالاً منه، ولم يكن ماله دليلاً على محبتنا له واعتنائنا به، كما قال تعالى: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا}، وقال تعالى: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون} وهذا الرد عليه يدل على صحة ما ذهبنا إليه من معنى قوله: {إنما أوتيته على علم عندى} وأما من زعم أن المراد من ذلك أنه كان يعرف صنعة الكيمياء، أو أنه كان يحفظ الاسم الأعظم فاستعمله فى جمع الأموال فليس بصحيح، لأن الكيمياء تخييل وصبغة لا تحيل الحقائق ولا تشابه صنعة الخالق، والاسم الأعظم لا يصعد الدعاء به من كافر به، وقارون كان كافرًا فى الباطن منافقًا فى الظاهر، ثم لا يصح جوابه لهم بهذا على هذا التقدير، ولا يبقى بين الكلامين تلازم، وقد وضحنا هذا فى كتابنا التفسير، ولله الحمد.

قال الله تعالى: {فخرج على قومه فى زينته} ذكر كثير من المفسرين أنه خرج فى تجمل عظيم من ملابس ومراكب وخدم وحشم، فلما رآه من يعظم زهرة الحياة الدنيا تمنوا أن لو كانوا مثله، وغبطوه بما عليه وله، فلما سمع مقالتهم العلماء ذوو الفهم الصحيح الزهاد الألباء، قالوا لهم: {ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا} أى ثواب الله فى الدار الآخرة خير وأبقى وأجل وأعلى، قال الله تعالى: {ولا يلقاها إلا الصابرون} أى وما يلقى هذه النصيحة وهذه المقالة وهذه الهمة السامية إلى الدار الآخرة العلية عند النظر إلى زهرة هذه الدنيا الدنية إلا من هدى الله قلبه، وثبت فؤاده وأيد لبه وحقق مراده، وما أحسن ما قال بعض السلف: إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات، قال الله تعالى: {فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين} لما ذكر تعالى خروجه فى زينته واختياله فيها وفخره على قومه بها قال: {فخسفنا به وبداره الأرض} كما روى البخارى من حديث الزهرى عن سالم، عن أبيه، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به فهو يتجلجل فى الأرض إلى يوم القيامة). ثم رواه البخارى من حديث جرير بن زيد عن سالم، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم نحوه. وقد ذكر ابن عباس والسدى: أن قارون أعطى امرأة بغيًا مالاً على أن تقول لموسى عليه السلام وهو فى ملأ من الناس إنك فعلت بى كذا وكذا، فيقال: إنها قالت له ذلك، فأرعد من الفرق، وصلى ركعتين، ثم أقبل عليها فاستحلفها من ذلك على ذلك، وما حملك عليه؟ فذكرت أن قارون هو الذى حملها على ذلك، واستغفرت الله وتابت إليه، فعند ذلك خر موسى لله ساجدًا، ودعا الله على قارون، فأوحى الله إليه أنى قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه، فأمر موسى الأرض أن تبتلعه وداره، فكان ذلك، فالله أعلم، وقد قيل: إن قارون لما خرج على قومه فى زينته مر بجحفله وبغاله وملابسه على مجلس موسى عليه السلام، وهو يذكر قومه بأيام الله، فلما رآه الناس انصرفت وجوه كثير من الناس ينظرون إليه، فدعاه موسى عليه السلام، فقال له: ما حملك على هذا؟ فقال: يا موسى، أما لئن كنت فُضلت على بالنبوة فلقد فضلت عليك بالمال، ولئن شئت لتخرجن، فلتدعون على ولأدعون عليك، فخرج، وخرج قارون فى قومه، فقال له موسى: تدعو أو أدعو؟ قال: أدعو أنا، فدعى قارون، فلم يجب فى موسى، فقال موسى: أدعو؟ قال: نعم، فقال موسى: اللهم مر الأرض فلتطعنى اليوم، فأوحى الله إليه: إنى قد فعلت، فقال موسى: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى أقدامهم، ثم قال: خذيهم، فأخذتهم إلى ركبهم، ثم إلى مناكبهم، ثم قال: أقبلى بكنوزهم وأموالهم، فأقبلت بها حتى نظروا إليها، ثم أشار موسى بيده فقال: اذهبوا بنى لاوى، فاستوت بهم الأرض. وقد روى عن قتادة أنه قال: يخسف بهم كل يوم قامة إلى يوم القيامة. وعن ابن عباس أنه قال: خسف بهم إلى الأرض السابعة. وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا إسرائيليات كثيرة، أضربنا عنها صفحًا، وتركناها قصدًا.

وقوله تعالى: {فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين} لم يكن له ناصر من نفسه ولا من غيره، كما قال: {فماله من قوة ولا ناصر} ولما حل به ما حل من الخسف، وذهاب الأموال، وخراب الدار، وإهلاك النفس والأهل والعقار، ندم من كان تمنى مثل ما أوتى، وشكروا الله تعالى الذى يدبر عباده بما يشاء من حسن التدبير المخزون، ولهذا قالوا: {لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون} وقد تكلمنا على لفظ: (ويك) فى التفسير. وقد قال قتادة: ويكأن بمعنى: ألم تر أن. وهذا قول حسن من حيث المعنى، والله أعلم، ثم أخبر تعالى أن { الدار الآخرة} وهى دار القرار، وهى الدار التى يغبط من أعطيها، ويعزى من حرمها، إنما هى معدة للذين لا يريدون علوًا فى الأرض ولا فسادًا، فالعلو هو: التكبر والفخر والأشر والبطر، والفساد هو: عمل المعاصى اللازمة والمتعدية من أخذ أموال الناس وإفساد معايشهم والإساءة إليهم، وعدم النصح لهم، ثم قال تعالى: {والعاقبة للمتقين} وقصة قارون هذه قد تكون قبل خروجهم من مصر، لقوله: {فخسفنا به وبداره الأرض} فإن الدار ظاهرة فى البنيان، وقد تكون بعد ذلك فى التيه، وتكون الدار عبارة عن المحلة التى تضرب فيها الخيام، كما قال عنترة:

يا دارا عبلــة بالجـــواء تكلمــــى

وعمى صباحـا دار عبلة واسلمـى

والله أعلم. وقد ذكر الله تعالى مذمة قارون فى غير ما آية من القرآن قال الله: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب}، وقال تعالى فى سورة العنكبوت، بعد ذكر عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان: {ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات فاستكبروا فى الأرض وما كانوا سابقين فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}، فالذى خسف به الأرض قارون، كما تقدم، والذى أغرق فرعون وهامان وجنودهما إنهم كانوا خاطئين.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا سعيد، حدثنا كعب بن علقمة، عن عيسى بن هلال الصدفى، عن عبد الله بن عمرو، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوما فقال: (من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبى بن خلف). انفرد به أحمد رحمه الله.

* * *

 

ذكر وفاته عليه السلام

قال البخارى فى صحيحه: (وفاة موسى عليه السلام) حدثنا يحيى بن موسى، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبى هريرة، قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صكه، فرجع إلى ربه عز وجل، فقال: أرسلتنى إلى عبد لا يريد الموت، قال: ارجع إليه، فقل له: يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: أى رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، قال: فسأل الله عز وجل أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، قال أبو هريرة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فلو كنت ثَّمَ لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر). قال: وأنبأنا معمر، عن همام، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم نحوه. وقد روى مسلم الطريق الأول من حديث عبد الرزاق به. ورواه الإمام أحمد من حديث حماد بن سلمة عن عمار بن أبى عمار، عن أبى هريرة مرفوعًا، وسيأتى.

وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو يونس، يعنى سليم بن جبير، عن أبى هريرة، قال الإمام أحمد: لم يرفعه، قال: جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فقال: أجب ربك، فلطم موسى عين ملك الموت، ففقأها، فرجع الملك إلى الله، فقال: إنك بعثتنى إلى عبد لك لا يريد الموت، قال: وقد فقأ عينى، قال: فرد الله عينه، وقال: ارجع إلى عبدى، فقل له: ألحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فما وارت يدك من شعره فإنك تعيش بها سنة، قال: ثم مه؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن يا رب من قريب. تفرد به أحمد، وهو موقوف بهذا اللفظ. وقد رواه ابن حبان فى صحيحه من طريق معمر عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبى هريرة، قال معمر: وأخبرنى من سمع الحسن، عن رسول الله فذكره. ثم استشكله ابن حبان، وأجاب عنه بما حاصله: أن ملك الموت لما قال له هذا لم يعرفه، لمجيئه له على غير صورة يعرفها موسى عليه السلام، كما جاء جبريل فى صورة أعرابى، وكما وردت الملائكة على إبراهيم ولوط فى صورة شباب، فلم يعرفهم إبراهيم ولا لوط أولاً، وكذلك موسى لعله لم يعرفه لذلك، ولطمه ففقأ عينه لأنه دخل داره بغير إذنه، وهذا موافق لشريعتنا فى جواز فقء عين من نظر إليك فى دارك بغير إذن، ثم اورد الحديث من طريق عبد الرزاق عن معمر، عن همام، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (جاء ملك الموت إلى موسى ليقبض روحه، قال له: أجب ربك، فلطم موسى عين ملك الموت، ففقأ عينه). وذكر تمام الحديث، كما أشار إليه البخارى، ثم تاوله على أنه لما رفع يده ليلطمه قال له: أجب ربك. وهذا التأويل لا يتمشى على ما ورد به اللفظ من تعقيب قوله: أجب ربك، بلطمه، ولو استمر على الجواب الأول لتمشى له، وكأنه لم يعرفه فى تلك الصورة، ولم يحمل قوله هذا على أنه مطابق، إذا لم يتحقق فى الساعة الراهنة أنه ملك كريم، لأنه كان يرجو أمورًا كثيرة، كان يحب وقوعها فى حياته، من خروجه من التيه ودخولهم الأرض المقدسة، وكان قد سبق فى قدرة الله أنه عليه السلام يموت فى التيه بعد هارون أخيه، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.

وقد زعم بعضهم أن موسى عليه السلام هو الذى خرج بهم من التيه، ودخل بهم الأرض المقدسة، وهذا خلاف ما عليه أهل الكتاب وجمهور المسلمين، ومما يدل على ذلك قوله لما اختار الموت: (رب أدننى إلى الأرض المقدسة رمية حجر)، ولو كان قد دخلها لم يسأل ذلك، ولكن لما كان مع قومه بالتيه وحانت وفاته عليه السلام، أحب أن يتقرب إلى الأرض التى هاجر إليها وحث قومه عليها، ولكن حال بينهم وبينها القدر رمية بحجر، ولهذا قال سيد البشر، ورسول الله إلى أهل الوبر والمدر: (فلو كنت ثم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر). وقال الإمام: حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا ثابت وسليمان التيمى، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما أسرى بى مررت بموسى وهو قائم يصلى فى قبره عند الكثيب الأحمر). ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به. وقال السدى عن أبى مالك وأبى صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة، قالوا: ثم إن الله تعالى أوحى إلى موسى: إنى متوف هارون، فائت به جبل كذا وكذا، فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل، فإذا هم بشجرة لم تر شجرة مثلها، وإذا هم ببيت مبنى، وإذا هم بسرير عليه فرش، وإذا فيه ريح طيبة، فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل، والبيت وما فيه، أعجبه، قال: يا موسى، إنى أحب أن أنام على هذا السرير، قال له موسى: فنم عليه، قال: إنى أخاف أن يأتى رب هذا البيت فيغضب على، قال له: لا ترهب، أنا أكفيك رب هذا البيت، فنم، قال: يا موسى، نم معى، فإن جاء رب هذا البيت غضب علىّ وعليك جميعًا، فلما ناما، أخذ هارون الموت، فلما وجد حسه قال: يا موسى، خدعتنى، فلما قبض، رفع ذلك البيت، وذهبت تلك الشجرة، ورفع السرير به إلى السماء، فلما رجع موسى إلى قومه وليس معه هارون، قالوا: فإن موسى قتل هارون، وحَسَدَه حب بنى إسرائيل له، وكان هارون أكف عنهم وألين لهم من موسى، وكان فى موسى بعض الغِلْظَة عليهم، فلما بلغه ذلك قال لهم: ويحكم، كان أخى، أفترونى أقتله؟ فلما أكثروا عليه، قام فصلى ركعتين، ثم دعا الله، فنزل السرير، حتى نظروا إليه بين السماء والأرض، ثم إن موسى عليه السلام بينما هو يمشى ويوشع فتاه، إذ أقبلت ريح سوداء، فلما نظر إليها يوشع ظن أنها الساعة، فالتزم موسى، وقال: تقوم الساعة وأنا ملتزم موسى نبى الله، فاستل موسى عليه السلام من تحت القميص، وترك القميص فى يدى يوشع، فلما جاء يوشع بالقميص آخذته بنو إسرائيل، وقالوا: قتلت نبى الله، فقال: لا، والله ما قتلته، ولكنه أستل منى، فلم يصدقوه وأرادوا قتله، قال: فإذا لم تصدقونى فأخرونى ثلاثة أيام، فدعا الله، فأتى كل رجل ممن كان يحرسه فى المنام، فأخبر أن يوشع لم يقتل موسى، وإنا قد رفعناه إلينا فتركوه، ولم يبق أحد ممن أبى أن يدخل قرية الجبارين مع موسى إلا مات، ولم يشهد الفتح، وفى بعض هذا السياق نكارة وغرابة، والله أعلم. وقد قدمنا: أنه لم يخرج أحد من التيه ممن كان مع موسى، سوى يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا، وهو زوج مريم أخت موسى وهارون، وهما الرجلان المذكوران فيما تقدم، اللذان أشارا على ملأ بنى إسرائيل بالدخول عليهم. وذكر وهب بن منبه: أن موسى عليه السلام مر بملأ من الملائكة يحفرون قبرًا فلم ير أحسن منه ولا أنضر ولا أبهج، فقال: يا ملائكة الله، لمن تحفرون هذا القبر؟ فقالوا: لعبد من عباد الله كريم، فإن كنت تحب أن تكون هذا العبد، فادخل هذا القبر، وتَمَدَّدْ فيه، وتوجه إلى ربك، وتنفَّس أسهل تنفُّس، ففعل ذلك، فمات صلوات الله وسلامه عليه، فصلت عليه الملائكة، ودفنوه.

وذكر أهل الكتاب وغيرهم: أنه مات وعمره مائة وعشرون سنة. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أمية بن خالد ويونس، قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبى عمار، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم - قال يونس: رفع هذا الحديث إلى النبى صلى الله عليه وسلم - قال: (كان ملك الموت يأتى الناس عَيَانا، قال: فأتى موسى عليه السلام فلطمه، ففقأ عينه، فأتى ربه، فقال: يا رب عبدك موسى فقأ عينى، ولولا كرامته عليك لعتبت عليه - وقال يونس لشققت عليه - قال له: اذهب إلى عبدى، فقل له: فليضع يده على جلد، أو مسك، ثور، فله بكل شعرة وارت يده سنة، فأتاه، فقال له، فقال: ما بعد هذا؟ قال: الموت، قال: فالآن. قال: فشمه شمة، فقبض روحه.) قال يونس: فرد الله عليه عينه، وكان يأتى الناس خفية. وكذا رواه ابن جرير عن أبى كريب عن مصعب بن المقدام عن حماد بن سلمة به، فرفعه أيضًا.

* * *

نبوة يوشع وقيامه بأعباء بنى إسرائيل بعد موسى وهارون

هو: يوشع بن نون بن أفراثيم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام، وأهل الكتاب يقولون: يوشع بن عم هود، وقد ذكره الله تعالى فى القرآن غير مصرح باسمه فى قصة الخضر، كما تقدم من قوله: {وإذ قال موسى لفتاه} {فلما جاوزا قال لفتاه} وقدمنا ما ثبت فى الصحيح من رواية أبى بن كعب رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم : (من أنه يوشع بن نون). وهو متفق على نبوته عند أهل الكتاب، فإن طائفة منهم، وهم السامرة، لا يقرون بنبوة أحد بعد موسى إلا يوشع بن نون، لأنه مصرح به فى التوراة، ويكفرون بما وراءه، وهو الحق من ربهم، فعليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.

وأما ما حكاه ابن جرير وغيره ومن المفسرين، عن محمد بن إسحاق: من أن النبوة حولت من موسى إلى يوشع فى آخر عمر موسى، فكان موسى يلقى يوشع فيسأله ما أحدث الله من الأوامر والنواهى؟ حتى قال له: يا كليم الله، إنى كنت لا أسألك عما يوحى الله إليك حتى تخبرنى أنت ابتداء من تلقاء نفسك، فعند ذلك كره موسى الحياة وأحب الموت. ففى هذا نظر لأن موسى عليه السلام لم يزل الأمر والوحى والتشريع والكلام من الله إليه من جميع أحواله حتى توفاه الله عز وجل، ولم يزل معززًا مكرمًا مدللاً وجيهًا عند الله كما قدمنا فى الصحيح من قصة فقئه عين ملك الموت، ثم بعثه الله إليه إن كان يريد الحياة، فليضع يده على جلد ثور فله بكل شعرة وارت يده سنة يعيشها، قال: ثم ماذا؟ قال: الموت، قال: فالآن يا رب، وسأل الله أن يدنيه إلى بيت المقدس رمية بحجر. وقد أجيب إلى ذلك صلوات الله وسلامه عليه، فهذا الذى ذكره محمد بن إسحاق إن كان إنما يقوله من كتب أهل الكتاب، ففى كتابهم الذى يسمونه التوراة: أن الوحى لم يزل ينزل على موسى فى كل حين يحتاجون إليه إلى آخر مدة موسى، كما هو المعلوم من سياق كتابهم، عند تابوت الشهادة فى قبة الزمان، وقد ذكروا فى السفر الثالث: أن الله أمر موسى وهارون أن يعدا بنى إسرائيل على أسباطهم، وأن يجعلا على كل سبط من الاثنى عشر أميرًا، وهو النقيب، وما ذاك إلا ليتأهبوا للقتال قتال الجبارين عند الخروج من التيه، وكان هذا عند اقتراب انقضاء الأربعين سنة. ولهذا قال بعضهم: إنما فقأ موسى عليه السلام عين ملك الموت لأنه لم يعرفه فى صورته تلك، ولأنه كان قد أمر بأمر كان يرتجى وقوعه فى زمانه، ولم يكن فى قدر الله أن يقع ذلك فى زمانه، بل فى زمان فتاه يوشع بن نون عليه السلام. كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أراد غزو الروم بالشام فوصل إلى تبوك، ثم رجع عامه ذلك فى سنة تسع ثم حج فى سنة عشر، ثم رجع فجهز جيش أسامة إلى الشام طليعة بين يديه، ثم كان على عزم الخروج إليهم امتثالا لقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطو الجزية عن يد وهم صاغرون} ولما جهز رسول الله جيش أسامة توفى عليه الصلاة والسلام، وأسامة مخيم بالجرف فنفذه صديقه وخليفته أبو بكر الصديق رضى الله عنه، ثم لما لم شعث جزيرة العرب وما كان دهى من أمر أهلها وعاد الحق إلى نصابه، جهز الجيوش يمنة ويسرة إلى العراق أصحاب كسرى ملك الفرس، وإلى الشام أصحاب قيصر ملك الروم، ففتح الله لهم ومكن لهم وبهم وملكهم نواصى أعدائهم، كما سنورده عليك فى موضعه إذا انتهينا إليه مفصلاً إن شاء الله بعونه وتوفيقه وحسن إرشاده.

وهكذا موسى عليه السلام كان الله قد أمره أن يجند بنى إسرائيل وأن يجعل عليهم نقباء كما قال تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا}، وقال الله: {إنى معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلى وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لاكفرن عنكم سيآتكم ولأدخلنكم جنات تجرى من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منك فقد ضل سواء السبيل} يقول لهم: لئن قمتم بما أوجبت عليكم، ولم تنكلوا عن القتال كما نكلتم أول مرة، لأجعلن ثواب هذه مكفرا لما وقع عليكم من عقاب تلك، كما قال تعالى لمن تخلف من الأعراب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة الحديبية: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله اجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما}، وهكذا قال تعالى لبنى إسرائيل: {فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل} ثم ذمهم تعالى على سوء صنيعهم ونقضهم مواثيقهم، كما ذم من بعدهم من النصارى على اختلافهم فى دينهم وأديانهم، وقد ذكرنا ذلك فى التفسير مستقصى ولله الحمد.

والمقصود: أن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يكتب أسماء المقاتلة من بنى إسرائيل ممن يحمل السلاح، ويقاتل ممن بلغ عشرين سنة فصاعدا، وأن يجعل على كل سبط نقيبًا منهم (السبط الأول): سبط روبيل، لأنه بكر يعقوب كان عدة المقاتلة منهم ستة وأربعين ألفا وخمسمائة، ونقيبهم منهم وهو: اليصور بن شديئورا، (السبط الثانى): سبط شمعون، وكانوا تسعة وخمسين ألفًا وثلاثمائة، ونقيبهم شلوميئيل بن هوريشداى، (السبط الثالث): سبط يهوذا، وكانوا أربعة وسبعين ألفا وستمائة، ونقيبهم نحشون بن عمينا داب، (السبط الرابع): سبط إيساخر، وكانوا أربعة وخمسين ألفا وأربعمائة، ونقيبهم نشائيل بن صوغر، (السبط الخامس): سبط يوسف عليه السلام، وكانوا أربعين ألفا وخمسمائة، ونقيبهم: يوشع بن نون، (السبط السادس): سبط ميشا، وكانوا أحدا وثلاثين ألفا ومائتين، ونقيبهم جمليئيل بن فدهصور، (السبط السابع): سبط بنيامين، وكانوا خمسة وثلاثين ألفا وأربعمائة، ونقيبهم أبيدن بن جدعون، (السبط الثامن): سبط حاد، وكانوا خمسة وأربعين ألفا وستمائة وخمسين رجلا، ونقيبهم إلياساف بن رعوئيل، (السبط التاسع): سبط أشير، وكانوا أحدًا وأربعين ألفا وخمسمائة، ونقيبهم فجعيئيل بن عكرن، (السبط العاشر): سبط دان، وكانوا اثنين وستين ألفا وسبعمائة، ونقيبهم أخيعزر ابن عمشداى، (السبط الحادى عشر): سبط نفتالى، وكانوا ثلاثة وخمسين ألفا وأربعمائة، ونقيبهم أخيرع بن عين، (السبط الثانى عشر): سبط زبولون، وكانوا سبعة وخمسين ألفا وأربعمائة، ونقيبهم الباب بن حيلون. هذا نص كتابهم الذى بأيديهم، والله أعلم. وليس منهم بنو لاوى، فأمر الله موسى أن لا يعدهم معهم، لأنهم موكلون بحمل قبة الشهادة وضربها ونصبها وحملها إذا ارتحلوا، وهم سبط موسى وهارون عليهما السلام، وكانوا اثنين وعشرين ألفا من ابن شهر فما فوق ذلك. وهم فى أنفسهم قبائل إلى كل قبيلة طائفة من قبة الزمان يحرسونها ويحفظونها ويقومون بمصالحها ونصبها وحملها وهم كلهم حولها ينزلون ويرتحلون أمامها ويمنتها وشمالها ووراءها.

وجملة ما ذكر من المقاتلة غير بنى لاوى: خمسمائة ألف وأحد وسبعون ألفا وستمائة وستة وخمسون، لكن قالوا: فكان عدد بنى إسرائيل ممن عمره عشرون سنة فما فوق ذلك ممن حمل السلاح ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسة وخمسين رجلا، سوى بنى لاوى، وفى هذا نظر، فإن جميع الجمل المتقدمة إن كانت كما وجدنا فى كتابهم لا تطابق الجملة التى ذكروها، والله أعلم، فكان بنو لاوى الموكلون بحفظ قبة الزمان يسيرون فى وسط بنى إسرائيل وهم القلب، ورأس الميمنة بنو روبيل، ورأس الميسرة بنو ران، وبنو نفتالى يكونون ساقه، وقرر موسى عليه السلام بأمر الله تعالى له الكهانة فى بنى هارون كما كانت لأبيهم من قبلهم، وهم ناداب وهو بكره، وأبيهو والعازر ويثمر.

والمقصود: أن بنى إسرائيل لم يبق منهم أحد ممن كان نكل عن دخول مدينة الجبارين الذين قالوا: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} قاله الثورى عن أبى سعيد عن عكرمة عن ابن عباس، وقاله قتادة وعكرمة، ورواه السدى عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة حتى قال ابن عباس وغيره من علماء السلف والخلف: ومات موسى وهارون قبله كلاهما فى التيه جميعًا. وقد زعم ابن إسحاق: أن الذى فتح بيت المقدس هو موسى، وإنما كان يوشع على مقدمته وذكر فى مروره إليها قصة بلعام بن باعوراء الذى قال تعالى فيه: {واتل عليهم نبأ الذى آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب أن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون} وقد ذكرنا قصته فى التفسير، وأنه كان فيما قاله ابن عباس وغيره يعلم الاسم الأعظم، وأن قومه سألوه أن يدعو على موسى وقومه، فامتنع عليهم ولما ألحوا عليه ركب حمارة له ثم سار نحو معسكر بنى إسرائيل، فلما أشرف عليهم ربضت به حمارته، فضربها حتى قامت فسارت غير بعيد وربضت، فضربها ضربا أشد من الأول، فقامت ثم ربضت، فضربها فقالت له: يا بلعام، أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامى تردنى عن وجهى هذا؟ أتذهب إلى نبى الله والمؤمنين تدعو عليهم، فلم ينزع عنها فضربها حتى سارت به حتى أشرف عليهم من رأس جبل حسبان، ونظر إلى معسكر موسى وبنى إسرائيل، فأخذ يدعو عليهم فجعل لسانه لا يطيعه إلا أن يدعو لموسى وقومه ويدعو على قوم نفسه فلاموه على ذلك، فاعتذر إليهم بأنه لا يجرى على لسانه إلا هذا، واندلع لسانه حتى وقع على صدره، وقال لقومه: ذهبت منى الآن الدنيا والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة، ثم أمر قومه أن يزينوا النساء ويبعثوهن بالأمتعة يبعن عليهم ويتعرضن لهم حتى لعلهم يقعون فى الزنا، فإنه متى زنى رجل منهم كفيتموهم، ففعلوا وزينوا نساءهم وبعثوهن إلى المعسكر فمرت امرأة منهم اسمها كستى برجل من عظماء بنى إسرائيل، وهو زمرى بن شلوم، يقال إنه: كان رأس سبط بنى شمعون بن يعقوب، فدخل بها قبته، فلما خلا بها أرسل الله الطاعون على بنى إسرائيل، فجعل يحوس فيهم، فلما بلغ الخبر إلى فنحاص بن العزار بن هارون أخذ حربته وكانت من حديد، فدخل عليهما القبة فانتظمهما جميعًا فيها، ثم خرج بهما على الناس والحربة فى يده وقد اعتمد على خاصرته وأسندها إلى لحيته ورفعهما نحو السماء، وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك، ورفع الطاعون، فكان جملة من مات فى تلك الساعة سبعين ألفا، والمقلل يقول: عشرين ألفا، وكان فنحاص بكر أبيه العزار بن هارون فلهذا يجعل بنو إسرائيل لولد فنحاص من الذبيحة اللية والذراع واللحى، ولهم البكر من كل أموالهم وأنفسهم. وهذا الذى ذكره ابن إسحاق من قصة بلعام صحيح قد ذكره غير واحد من علماء السلف، لكن لعله لما أراد موسى دخول بيت المقدس أول مقدمه من الديار المصرية، ولعله مراد ابن إسحاق، ولكنه ما فهمه بعض الناقلين عنه. وقد قدمنا عن نص التوراة ما يشهد لبعض هذا، والله أعلم.

ولعل هذه قصة أخرى كانت فى خلال سيرهم فى التيه فإن فى هذا السياق ذكر حسبان وهى بعيدة عن أرض بيت المقدس، أو لعله كان هذا لجيش موسى الذين عليهم يوشع بن نون حين خرج بهم من التيه قاصدًا بيت المقدس كما صرح به السدى، والله أعلم. وعلى كل تقدير فالذى عليه الجمهور: أن هارون توفى بالتيه قبل موسى أخيه بنحو من سنتين، وبعده موسى فى التيه أيضًا، كما قدمنا، وأنه سأل ربه أن يقرب إلى بيت المقدس فأجيب إلى ذلك، فكان الذى خرج بهم من التيه وقصد بهم بيت المقدس هو يوشع بن نون عليه السلام، فذكر أهل الكتاب وغيرهم من أهل التاريخ: أنه قطع بنى إسرائيل نهر الأردن، وانتهى إلى أريحا، وكانت من أحصن المدائن سورًا وأعلاها قصورًا وأكثرها أهلاً فحاصرها ستة أشهر، ثم إنهم أحاطوا بها يومًا وضربوا بالقرون، يعنى الأبواق، وكبروا تكبيرة رجل واحد فتفسخ سورها وسقط وجبة واحدة، فدخلوها وأخذوا ما وجدوا فيها من الغنائم وقتلوا اثنى عشر ألفا من الرجال والنساء، وحاربوا ملوكًا كثيرة، ويقال: إن يوشع ظهر على أحد وثلاثين ملكًا من ملوك الشام، وذكروا أنه انتهى محاصرته لها إلى يوم جمعة بعد العصر، فلما غربت الشمس أو كادت تغرب ويدخل عليهم السبت الذى جعل عليهم وشرع لهم ذلك الزمان، قال لها: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علىّ، فحبسها الله عليه، حتى تمكن من فتح البلد، وأمر القمر فوقف عن الطلوع. وهذا يقتضى أن هذه الليلة كانت الليلة الرابعة عشرة من الشهر، والأول وهو قصة الشمس المذكورة فى الحديث الذى سأذكره، وأما قصة القمر فمن عند أهل الكتاب، ولا ينافى الحديث بل فيه زيادة تستفاد فلا تصدق ولا تكذب، ولكن ذكرهم أن هذا فى فتح أريحا فيه نظر، والأشبه والله أعلم، أن هذا كان فى فتح بيت المقدس الذى هو المقصود الأعظم، وفتح أريحا كان وسيلة إليه، والله أعلم.

قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا أبو بكر، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع ليالى سار إلى بيت المقدس). انفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو على شرط البخارى، وفيه دلالة على أن الذى فتح بيت المقدس هو يوشع بن نون عليه السلام لا موسى، وأن حبس الشمس كان فى فتح بيت المقدس لا أريحا، كما قلنا، وفيه: أن هذا كان من خصائص يوشع عليه السلام، فيدل على ضعف الحديث الذى رويناه أن الشمس رجعت حتى صلى على بن أبى طالب صلاة العصر بعد ما فاتته بسبب نوم النبى صلى الله عليه وسلم على ركبته، فسأل رسول الله أن يردها عليه حتى يصلى العصر، فرجعت. وقد صححه على ابن صالح المصرى، ولكنه منكر ليس فى شىء من الصحاح ولا الحسان، وهو مما تتوفر الدواعى على نقله، وتفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (غزا نبى من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعنى رجل قد ملك بضع امرأة، وهو يريد أن يبنى بها ولما يبن، ولا آخر قد بنى بنيانًا ولم يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر أولادها، فغزا فدنا من القرية حين صلى العصر، أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علىّ شيئا، فحبست عليه، حتى فتح الله عليه، فجمعوا ما غنموا فأتت النار لتأكله، فأبت أن تطعمه، فقال: فيكم غلول، يعنى من كل قبيلة رجل فبايعوه، فلصقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول، وليتابعنى قبيلتك فبايعته قبيلته، فلصق بيد رجلين أو ثلاثة، فقال: فيكم الغلول، أنتم غللتم فأخرجوا له مثل رأس بقرة من ذهب، قال: فوضعوه بالمال وهو بالصعيد، فأقبلت النار فأكلته، فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا، ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا). انفرد به مسلم من هذا الوجه. وقد روى البزار من طريق مبارك بن فضالة، عن عبيد الله، عن سعيد المقبرى، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم نحوه. قال: ورواه محمد بن عجلان عن سعيد المقبرى، قال: ورواه قتادة عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم .

والمقصود: أنه لما دخل بهم باب المدينة أمروا أن يدخلوها سجدا، أى ركعا متواضعين شاكرين لله عز وجل، على ما من به عليهم من الفتح العظيم، الذى كان الله وعدهم إياه، وأن يقولوا حال دخولهم حطة، أى حط عنا خطايانا التى سلفت من نكولنا الذى تقدم منا، ولهذا لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم فتحها دخلها وهو راكب ناقته وهو متواضع حامد شاكر، حتى أن عثنونه، وهو طرف لحيته، ليمس مورك رحله مما يطأطئ رأسه خضعانا لله عز وجل، ومعه الجنود والجيوش ممن لا يرى منه إلا الحدق ولاسيما الكتيبة الخضراء التى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لما دخلها اغتسل، وصلى ثمانى ركعات، وهى صلاة الشكر على النصر على المنصور من قولى العلماء، وقيل: إنها صلاة الضحى، وما حمل هذا القائل على قوله هذا إلا لأنها وقعت وقت الضحى، وأما بنو إسرائيل فإنهم خالفوا ما أمروا به قولا وفعلا دخلوا الباب يزحفون على استاههم، يقولون: حبة فى شعرة، وفى رواية: حنطة فى شعرة، وحاصله: أنهم بدلوا ما أمروا به واستهزءوا به كما قال تعالى حاكيا عنهم فى سورة الأعراف وهى مكية: {وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذى قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون}، وقال فى سورة البقرة وهى مدنية مخاطبا لهم: {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولا غير الذى قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون}، وقال الثورى عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس {وادخلوا الباب سجدا} قال: ركعًا من باب صغير. رواه الحاكم وابن جرير وابن أبى حاتم، وكذا روى العوفى عن ابن عباس، وكذا روى الثورى عن ابن إسحاق، عن البراء، قال مجاهد والسدى والضحاك: والباب هو باب حطة من بيت إيلياء بيت المقدس. قال ابن مسعود: فدخلوا مقنعى رءوسهم ضد ما أمروا به، وهذا لا ينافى قول ابن عباس: أنهم دخلوا يزحفون على استاههم. وهكذا فى الحديث الذى سنورده بعد، فإنهم دخلوا يزحفون وهم مقنعوا رءوسهم وقوله: {وقولوا حطة} الواو هنا حالية لا عاطفة، أى ادخلوا سجدا فى حال قولكم: حطة. قال ابن عباس وعطاء والحسن وقتادة والربيع: أمروا أن يستغفروا.

قال البخارى: حدثنا محمد، حدثنا عبد الرحمن بن مهدى، عن ابن المبارك، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (قيل لبنى إسرائيل: ادخلوا الباب سجدا، وقولوا: حطة، فدخلوا يزحفون على استاههم، فبدلوا، وقالوا: حطة حبة فى شعرة). وكذا رواه النسائى من حديث ابن المبارك ببعضه. ورواه عن محمد بن إسماعيل ابن إبراهيم عن ابن مهدى به، موقوفًا. وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (قال الله لبنى إسرائيل: ادخلوا الباب سجدا، وقولوا حطة، نغفر لكم خطاياكم، فبدلوا، فدخلوا الباب يزحفون على استاههم، فقالوا: حبة فى شعرة). ورواه البخارى ومسلم والترمذى من حديث عبد الرزاق، وقال الترمذى: حسن صحيح.

وقال محمد بن إسحاق: كان تبديلهم كما حدثنى صالح بن كيسان، عن صالح، مولى التوأمة، عن أبى هريرة، وعمن لا أتهم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دخلوا الباب الذى أمروا أن يدخلوا فيه سجدًا يزحفون على استاههم، وهم يقولون: حنطة فى شعيرة). وقال أسباط عن السدى، عن مرة، عن ابن مسعود، قال فى قوله: {فبدل الذين ظلموا قولا غير الذى قيل لهم} قال: قالوا: (هطى سقاثا أزمة مزبا)، فهى فى العربية: (حبة حنطة، حمراء، مثقوبة، فيها شعرة سوداء). وقد ذكر الله تعالى أنه عاقبهم على هذه المخالفة، بإرسال الرجز الذى أنزله عليهم، وهو الطاعون. كما ثبت فى الصحيحين من حديث الزهرى عن عامر بن سعد، ومن حديث مالك عن محمد بن المنكدر، وسالم أبى النضر عن عامر بن سعد، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن هذا الوجع، أو السقم، رجز عذب به بعض الأمم قبلكم). وروى النسائى وابن أبى حاتم وهذا لفظه من حديث الثورى، عن حبيب بن أبى ثابت، عن إبراهيم بن سعد بن أبى وقاص، عن أبيه وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت، قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الطاعون رجز، عذاب عُذّب به من كان قبلكم). وقال الضحاك عن ابن عباس: الرجز العذاب. وكذا قال مجاهد وأبو مالك والسدى والحسن وقتادة. وقال أبو العالية: هو الغضب. وقال الشعبى: الرجز إما الطاعون، وإما البرد. وقال سعيد بن جبير: هو الطاعون، ولما استقرت يد بنى إسرائيل على بيت المقدس استمروا فيه وبين أظهرهم نبى الله يوشع، يحكم بينهم بكتاب الله التوراة، حتى قبضه الله إليه وهو ابن مائة وسبع وعشرين سنة، فكان مدة حياته بعد موسى سبعًا وعشرين سنة.

* * *