قصة موسى والخضر عليهما السلام

قال الله تعالى: {وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله فى البحر سربا فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإنى نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله فى البحر عجبا قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما قال له موسى هل اتبعك على أن تعلمنى مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معى صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا قال ستجدنى إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا قال فإن اتبعتنى فلا تسألنى عن شى حتى أحدث لك منه ذكرا فانطلقا حتى إذا ركبا فى السفينة خرقها قال اخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا امرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معى صبرا قال لا تؤاخذنى بما نسيت ولا ترهقنى من أمرى عسرا فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معى صبرا قال إن سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى قد بلغت من لدنى عزرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بينى وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فاردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين فى المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمرى ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا}.

قال بعض أهل الكتاب: إن موسى هذا الذى رحل إلى الخضر، هو موسى بن ميشا ابن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم الخليل، وتابعهم على ذلك بعض من يأخذ من صحفهم وينقل عن كتبهم، منهم نوف بن فضالة الحميرى الشامى البكالى، ويقال: إنه دمشقى وكانت أمه زوجة كعب الأحبار، والصحيح الذى دل عليه ظاهر سياق القرآن ونص الحديث الصحيح الصريح المتفق عليه، أنه موسى بن عمران صاحب بنى إسرائيل.

قال البخارى: حدثنا الحميدى، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو بن دينار، أخبرنى سعيد ابن جبير، قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالى يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بنى إسرائيل، قال ابن عباس: كذب عدو الله، حدثنا أبى بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن موسى قام خطيبًا فى بنى إسرائيل، فسئل: أى الناس أعلم؟ فقال: أنا فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لى عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: يا رب، وكيف لى به؟ قال: تأخذ معك حوتًا فتجعله بمكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتًا فجعله بمكتل، ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما، واضطرب الحوت فى المكتل، فخرج منه فسقط فى البحر، {واتخذ سبيله فى البحر سربًا}، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسى صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى {لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا} ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذى أمره الله به {قال} له فتاه {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإنى نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله فى البحر عجبا} قال فكان للحوت سربًا، ولموسى ولفتاه عجبًا {قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا} قال: فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام، قال: أنا موسى، قال: موسى بنى إسرائيل، قال: نعم، أتيتك لتعلمنى مما علمت رشدًا، {قال إنك لن تستطيع معى صبرا} يا موسى إنى على علم من علم الله، علمنيه الله، لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم الله، علمكه الله لا أعلمه، فقال: {ستجدنى إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا} قال له الخضر: {فإن اتبعتنى فلا تسألنى عن شىء حتى أحدث لك منه ذكرا فانطلقا} يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة فكلمهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا فى السفينة لم يفاجأ إلا والخضر قد قلع لوحًا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها {لتغرق أهلها لقد جئت شيئًا إمرًا قال ألم أقل إنك لن تستيطع معى صبرا قال لا تؤاخذنى بما نسيت ولا ترهقنى من أمرى عسرا} قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وكانت الأولى من موسى نسيانًا، قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر فى البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمى وعلمك فى علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ بصر الخضر غلامًا يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده، فاقتلعه بيده، فقتله، فقال له موسى: {أقتلت نفسًا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا} قال: {ألم أقل لك إنك لن تسطيع معى صبرا} قال وهذه أشد من الأولى: {قال إن سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى قد بلغت من لدنى عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض}، قال: مائل، فقال: الخضر بيده {فأقامه} فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا {لو شئت لاتخذت عليه أجرًا قال هذا فراق بينى وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا}، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما). قال سعيد بن جبير: فكان ابن عباس يقرأ: (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا) وكان يقرأ: (وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين).

ثم رواه البخارى أيضًا عن قتيبة، عن سفيان بن عيينة، بإسناده نحوه. وفيه: (فخرج موسى ومعه فتاه يوشع بن نون ومعهما الحوت، حتى انتهيا إلى الصخرة، فنزلا عندها، قال: فوضع موسى رأسه فنام). قال سفيان: وفى حديث غير عمرو قال: (وفى أصل الصخرة عين يقال لها: الحياة، لا يصيب من مائها شىء إلا حيى، فأصاب الحوت من ماء تلك العين، قال: فتحرك وانسل من المكتل، ودخل البحر، فلما استيقظ {قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا} وساق الحديث). وقال: (ووقع عصفور على حرف السفينة، فغمس منقاره فى البحر، فقال الخضر لموسى: ما علمى وعلمك وعلم الخلائق فى علم الله إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره)، وذكر تمام الحديث.

وقال البخارى: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم، قال: أخبرنى يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، يزيد أحدهما على صاحبه، وغيرهما قد سمعته يحدثه عن سعيد بن جبير، قال: إنا لعند ابن عباس فى بيته إذ قال: سلونى، فقلت: أى أبا عباس، جعلنى الله فداك، بالكوفة رجل قاص يقال له: نوف، يزعم أنه ليس بموسى بنى إسرائيل، أما عمرو فقال لى: قال: قد كذب عدو الله، وأما يعلى فقال لى: قال ابن عباس: حدثنى أبى بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (موسى رسول الله، قال: ذكر الناس يومًا، حتى إذا فاضت العيون، ورقت القلوب ولى، فأدركه رجل، فقال: أى رسول الله، هل فى الأرض أحد أعلم منك؟ قال: لا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله، قيل: بلى، قال: أى رب، فأين؟ قال: بمجمع البحرين، قال: أى رب؟ اجعل لى علما أعلم ذلك به. قال لى عمرو: قال: حيث يفارقك الحوت، وقال لى يعلى: قال خذ حوتًا ميتًا حيث ينفخ فيه الروح، فأخذ حوتًا فجعله فى مكتل، فقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرنى بحيث يفارقك الحوت، قال: ما كلفت كبيرًا فذلك قوله: {وإذ قال موسى لفتاه} يوشع بن نون، ليست عن سعيد ابن جبير، قال: فبينما هو فى ظل صخرة فى مكان ثريان، إذ اضطرب الحوت وموسى نائم، فقال فتاه: لا أوقظه، حتى إذا استيقظ نسى أن يخبره، واضطرب الحوت حتى دخل البحر، فأمسك الله عنه جرية البحر، حتى كأن أثره فى حجر، قال لى عمرو: هكذا كأن أثره فى حجر، وحلق بين إبهاميه، واللتين تليانهما {لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا} قال: وقد قطع الله عنك النصب، ليست هذه عن سعيد، أخبره فرجعا، فوجدا خضرًا. قال لى عثمان بن أبى سليمان: على طنفسة خضراء على كبد البحر، قال سعيد: مسجى بثوبه، قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه، وقال: هل بأرض من سلام؟ من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بنى إسرائيل، قال: نعم، قال: فما شأنك؟ قال: جئتك لتعلمنى مما علمت رشدا، قال: أما يكفيك أن التوارة بيديك، وأن الوحى يأتيك يا موسى، إن لى علمًا لا ينبغى لك أن تعلمه، وإن لك علمًا لا ينبغى لى أن أعلمه، فأخذ طائر بمنقاره من البحر، فقال: والله، ما علمى وعلمك فى جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر {حتى إذا ركبا فى السفينة} وجدا معابر صغارًا تحمل أهل هذا الساحل إلى أهل هذا الساحل الآخر، عرفوه، فقالوا: عبد الله الصالح، قال: فقلنا لسعيد: خضر؟ قال: نعم، لا نحمله بأجر فـ{خرقها} ووتد فيها وتدًا {قال} موسى {أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرًا} قال مجاهد: منكرًا {قال ألم أقل إنك لن تستطيع معى صبرا} كانت الأولى نسيانًا، والوسطى شرطًا، والثالثة عمدًا {قال لا تؤاخذنى بما نسيت ولا ترهقنى من أمرى عسرا فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله}، قال يعلى: قال سعيد: وجد غلمانًا يلعبون، فأخذ غلامًا كافرًا ظريفًا فأضجعه، ثم ذبحه بالسكين {قال أقتلت نفسا زكية} لم تعمل بالخبث، ابن عباس قرأها: (زكية زاكية مسلمة). كقولك: غلامًا زكيًا، فانطلقا {فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه} قال: بيده هكذا، ورفع يده فاستقام، قال يعلى: حسبت أن سعيدًا قال: فمسحه بيده فاستقام {قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا} قال سعيد: أجرًا نأكله {وكان وراءهم} وكان أمامهم، قرأها ابن عباس: (أمامهم)، ملك يزعمون، عن غير سعيد، أنه هدد بن بدد، والغلام المقتول: يزعمون جيسور {ملك يأخذ كل سفينة غصبا} فإذا هى مرت به يدعها بعيبها، فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها، منهم من يقول: سدوها بقارورة، ومنهم من يقول: بالقار {كان أبواه مؤمنين} وكان كافرا {فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا} أى يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه {فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة} لقوله {أقتلت نفسا زكية} {وأقرب رحما} هما به أرحم منهما بالأول الذى قتل خضر، وزعم سعيد بن جبير: أنه ابن لا جارية، وأما داود بن أبى عاصم، فقال عن غير واحد: إنها جارية.

وقد رواه عبد الرزاق عن معمر، عن أبى إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: خطب موسى بنى إسرائيل، فقال: ما أحد أعلم بالله وبأمره منى، فأمر أن يلقى هذا الرجل، فذكر نحو ما تقدم. وهكذا رواه محمد بن إسحاق عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عيينة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبى بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كنحو ما تقدم أيضًا. ورواه العوفى عنه موقوفًا. وقال الزهرى عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزارى فى صاحب موسى، فقال ابن عباس: هو خضر، فمر بهما أبى بن كعب، فدعاه ابن عباس، فقال: إنى تماريت أنا وصاحبى هذا فى صاحب موسى الذى سأل السبيل إلى لقيه، فهل سمعت من رسول الله فيه شيئا؟ قال: نعم، وذكر الحديث. وقد تقصينا طرق هذا الحديث وألفاظه، فى تفسير سورة الكهف ولله الحمد.

وقوله: {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين فى المدينة} قال السهيلى: وهما أصرم وصريم ابنا كاشح {وكان تحته كنز لهما} قيل: كان ذهبًا، قاله عكرمة. وقيل: علمًا، قاله ابن عباس. والأشبه أنه كان لوحًا من ذهب، مكتوبًا فيه علم. قال البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهرى، حدثنا بشر بن المنذر، حدثنا الحرث بن عبد الله اليحصبى، عن عياش بن عباس الغسانى، عن ابن حجيرة، عن أبى ذر رفعه، قال: إن الكنز الذى ذكر الله فى كتابه لوح من الذهب مصمت: عجبت لمن أيقن بالقدر كيف نصب؟ وعجبت لمن ذكر النار لم ضحك؟ وعجبت لمن ذكر الموت كيف غفل؟ لا إله إلا الله. وهكذا روى عن الحسن البصرى وعمر مولى عفرة وجعفر الصادق نحو هذا. وقوله: {وكان أبوهما صالحا} وقد قيل: إنه كان الأب السابع، وقيل: العاشر، وعلى كل تقدير فيه دلالة على أن الرجل الصالح يحفظ فى ذريته، فالله المستعان.

وقوله: {رحمة من ربك} دليل على أنه كان نبيًا، وأنه ما فعل شيئًا من تلقاء نفسه، بل بأمر ربه، فهو نبى، وقيل: رسول، وقيل: ولى، وأغرب من هذا من قال: كان ملكا، قلت: وقد أغرب جدًا من قال: هو ابن فرعون، وقيل: إنه ابن الضحاك الذى ملك الدنيا ألف سنة، قال ابن جرير: والذى عليه جمهور أهل الكتاب: أنه كان فى زمن أفريدون، ويقال: إنه كان على مقدمة ذى القرنين، الذى قيل إنه كان أفريدون، وذو الفرس هو الذى كان فى زمن الخليل، وزعموا: أنه شرب من ماء الحياة فخلد، وهو باق إلى الآن، وقيل: إنه من ولد بعض من آمن بإبراهيم وهاجر معه من أرض بابل، وقيل: اسمه ملكان، وقيل: أرميا بن خلقيا، وقيل: كان نبيًا فى زمن سباسب بن لهراسب، قال ابن جرير: وقد كان بين أفريدون وبين سباسب دهور طويلة لا يجهلها أحد من أهل العلم بالأنساب، قال ابن جرير: والصحيح أنه كان فى زمن أفريدون، واستمر حيا إلى أن أدركه موسى عليه السلام، وكانت نبوة موسى فى زمن منوشهر، الذى هو من ولد أبرج بن أفريدون، أحد ملوك الفرس، وكان إليه الملك بعد جده أفريدون لعهده، وكان عادلاً وهو أول من خندق الخنادق، وأول من جعل فى كل قرية دهقانًا، وكانت مدة ملكه قريبًا من مائة وخمسين سنة، ويقال: إنه كان من سلالة إسحاق بن إبراهيم، وقد ذكر عنه من الخطب الحسان، والكلم البليغ النافع الفصيح، ما يبهر العقل ويحير السامع، وهذا يدل على أنه من سلالة الخليل، والله أعلم. وقد قال الله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمه ثم جائكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم} الآية.

فأخذ الله ميثاق كل نبى على أن يؤمن بمن يجىء بعده من الأنبياء وينصره، واستلزم ذلك الإيمان وأخذ الميثاق لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه خاتم الأنبياء فحق على كل نبى أدركه أن يؤمن به وينصره فلو كان الخضر حيًا فى زمانه لما وسعه إلا اتباعه والاجتماع به والقيام بنصره، ولكان من جملة من تحت لوائه يوم بدر كما كان تحتها جبريل وسادات من الملائكة، وقصارى الخضر عليه السلام أن يكون نبيًا، وهو الحق، أو رسولا، كما قيل، أو ملكًا، فيما ذكر، وأيا ما كان: فجبريل رئيس الملائكة، وموسى أشرف من الخضر، ولو كان حيًا لوجب عليه الإيمان بمحمد ونصرته، فكيف إن كان الخضر وليًا كما يقوله طوائف كثيرون، فأولى أن يدخل فى عموم البعثة وأحرى، ولم ينقل فى حديث حسن، بل ولا ضعيف، يعتمد أنه جاء يومًا واحدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا اجتمع به، وما ذكر من حديث التغرية فيه، وإن كان الحاكم قد رواه فإسناده ضعيف، والله أعلم، وسنفرد للخضر ترجمة على حدة بعد هذا.

حديث الفتون المتضمن قصة موسى من أولها إلى آخرها

قال الإمام أبو عبد الرحمن النسائى، فى كتاب التفسير من سننه، عند قوله تعالى فى سورة طه: {وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا}: حديث الفتون حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا أصبغ بن زيد، حدثنا القاسم بن أبى أيوب، أخبرنى سعيد بن جبير، قال: سألت عبد الله بن عباس عن قول الله تعالى: {وفتناك فتونا} فسأله عن الفتون ما هو؟ فقال: استأنف النهار يا ابن جبير، فإن لها حديثا طويلا، فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدنى من حديث الفتون، فقال: تَذَكَّر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد ابراهيم عليه السلام أن يجعل فى ذريته أنبياء وملوكًا، فقال بعضهم: إن بنى إسرائيل ينتظرون ذلك، ما يشكون فيه، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب، فلما هلك قالوا: ليس هكذا كان وعد إبراهيم، فقال فرعون: فكيف ترون؟ فأتمروا، وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار يطوفون فى بنى إسرائيل، فلا يجدون مولودًا ذكرًا إلا ذبحوه، ففعلوا ذلك، فلما رأوا أن الكبار من بنى إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يذبحون، قالوا: توشكون أن تفنوا بنى إسرائيل، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة الذى كانوا يكفونكم، فاقتلوا عامًا كل مولود ذكر فتقل بناتهم، ودعوا عامًا فلا تقتلوا منهم أحدًا، فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم، فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولن تفتنوا بمن تقتلون، وتحتاجون إليهم، فأجمعوا أمرهم على ذلك، فحملت أم موسى بهارون فى العام الذى لا تقتل فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة، فلما كان من قابل، حملت بموسى عليه السلام، فوقع فى قلبها الهم والحزن، وذلك من الفتون يا ابن جبير، ما دخل عليه فى بطن أمه مما يراد، فأوحى الله إليها أن لا تخافى، ولا تحزنى {إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} فأمرها إذا ولدت أن تجعله فى تابوت وتلقيه فى اليم، فلما ولدت فعلت ذلك، فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان، فقالت فى نفسها: ما فعلت بابنى لو ذبح عندى فواريته وكفنته، كان أحب إلىّ من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه، فانتهى الماء به حتى أوفى عند فرضة تستقى منها جوارى امرأة فرعون، فلما رأينه أخذنه، فهممن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهن: إن فى هذا مالاً، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئًا، حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رأت فيه غلامًا، فألقى عليه منها محبة لم تلق منها على أحد قط، {وأصبح فؤاد أم موسى فارغا}: من ذكر كل شىء إلا من ذكر موسى، فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جبير، فقالت لهم: أقروه، فإن هذا الواحد لا يزيد فى بنى إسرائيل، حتى آتى فرعون فأستوهبه منه، فإن وهبه منى كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم، فأتت فرعون فقالت: {قرة عين لى ولك} فقال فرعون: يكون لك، فأما لى فلا حاجة لى فيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (والذى يحلف به، لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها، ولكن حرمه ذلك) فأرسلت إلى من حولها، إلى كل امرأة لها لأن تختار ظئرا، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت فأحزنها ذلك، فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس، ترجو أن تجد له ظئرًا يأخذه منها، فلم يقبل، وأصبحت أم موسى والهًا، فقالت لأخته: قصى أثره واطلبيه، هل تسمعين له ذكرًا؟ أحى إبنى أم قد أكلته الدواب؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه، {فبصرت به} أخته {عن جُنب وهم لا يشعرون}، والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شىء بعيد وهو إلى جنبه لا يشعر به، فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤرات: {أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون}، فقالوا: ما يدريك ما نصحهم؟ هل يعرفونه، حتى شكوا فى ذلك، وذلك من الفتون يا ابن جبير، فقالت: نُصحهم له، وشفقتهم عليه، ورغبتهم فى صهر الملك، ورجاء منفعة الملك، فأرسلوها، فانطلقت إلى أمها، فأخبرتها الخبر، فجاءت أمه، فلما وضعته فى حجرها نزا إلى ثديها فمصه، حتى امتلأ جنباه ريا، وانطلق البشير إلى امرأة فرعون يبشرها أن قد وجدنا لابنك ظئرا، فأرسلت إليها، فأتت بها وبه، فلما رأت ما يصنع بها، قالت: أمكثى ترضعى ابنى هذا، فإنى لم أحب شيئًا حبه قط، قالت أم موسى: لا أستطيع أن أترك بيتى وولدى فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه، فأذهب به إلى بيتى، فيكون معى، لا آلوه خيرًا، فعلت، فإنى غير تاركة بيتى وولدى، وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها، فتعاسرت على امرأة فرعون، وأيقنت أن الله منجز موعوده، فرجعت إلى بيتها من يومها، وأنبته الله نباتًا حسنًا، وحفظ لما قد قضى فيه، فلم يزل بنو إسرائيل وهم فى ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم، فلما ترعرع، قالت امرأة فرعون لأم موسى: أرينى ابنى، فوعدتها يومًا تريها إياه فيه، وقالت امرأة فرعون لخازنها وظئورها وقهارمتها: لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابنى اليوم بهدية وكرامة، لأرى ذلك فيه، وأنا باعثة أمينًا يحصى كل ما يصنع كل إنسان منكم، فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فلما دخل عليها نحلته وأكرمته، فرحت به، ونحلت أمه بحسن أثرها عليه، ثم قالت: لآتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه، فلما دخلت به عليه، جعله فى حجره، فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض، فقال الغواة من أعداء الله لفرعون: ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه أنه زعم أنه يرثك ويعلوك ويصرعك؟ فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه، وذلك من الفتون يا بن جبير بعد كل بلاء ابتلى به وأريد به، فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون، فقالت: ما بدا لك فى هذا الغلام الذى وهبته لى؟ فقال: ألا ترينه يزعم أنه يصرعنى ويعلونى؟ فقالت: اجعل بينى وبينك أمرًا تعرف فيه الحق، أئت بجمرتين ولؤلؤتين فقربهن إليه، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين، علمت أن أحدًا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل، فقرب إليه، فتناول الجمرتين، فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده، فقالت المرأة: ألا ترى؟ فصرفه الله عنه بعد ما كان هم به، وكان الله بالغًا فيه أمره، فلما بلغ أشده وكان من الرجال، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بنى إسرائيل معه بظلم ولا سخرة، حتى امتنعوا كل الامتناع، فبينما موسى عليه السلام يمشى فى ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان، أحدهما فرعونى، والآخر إسرائيلى، فاستغاثه الإسرائيلى على الفرعونى، فغضب موسى غضبًا شديدًا لأنه تناوله وهو يعلم منزلته من بنى إسرائيل، وحفظه لهم ما لم يطلع عليه غيره، فوكز موسى الفرعونى فقتله، وليس يراهما أحد إلا الله عز وجل والإسرائيلى، فقال موسى حين قتل الرجل: {هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين} ثم قال: {رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين فأصبح فى المدينة خائفا يترقب} الأخبار، فأتى فرعون، فقيل له: إن بنى إسرائيل قتلوا رجلاً من آل فرعون، فخذ لنا بحقنا، ولا ترخص لهم، فقال: ابغونى قاتله من يشهد عليه، فإن الملك وإن كان صفوة مع قومه لا ينبغى له أن يقتل بغير بينة ولا ثبت، فاطلبوا لى علم ذلك آخذ لكم بحقكم، فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة، إذا موسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلى يقاتل رجلاً من آل فرعون آخر، فاستغاثه الإسرائيلى على الفرعونى، فصادف موسى قد ندم على ما كان منه، وكره الذى رأى، فغضب الإسرائيلى وهو يريد أن يبطش بالفرعونى، فقال للإسرائيلى لما فعل بالأمس واليوم: {إنك لغوى مبين} فنظر الإسرائيلى إلى موسى بعدما قال له ما قال، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذى قتل فيه الفرعونى، فخاف أن يكون بعد ما قال له: {إنك لغوى مبين} أن يكون إياه أراده، ولم يكن أراده إنما أراد الفرعونى، فخاف الإسرائيلى، وقال لموسى: {أتريد أن تقتلنى كما قتلت نفسًا بالأمس}، وإنما قال له مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله فتتاركا، وانطلق الفرعونى فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلى من الخبر حين يقول: {أتريد أن تقتلنى كما قتلت نفسًا بالأمس}، فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى، فأخذ رسل فرعون الطريق الأعظم يمشون على هينتهم يطلبون موسى وهم لا يخافون أن يفوتهم، فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة فاختصر طريقًا حتى سبقهم إلى موسى فأخبره، وذلك من الفتون يا ابن جبير، فخرج موسى متوجهًا نحو مدين لم يلق بلاء قبل ذلك، وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه عز وجل، فإنه قال: {عسى ربى أن يهدينى سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه امة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان} يعنى بذلك حابستين غنمهما، فقال لهما: {ما خطبكما} معتزلتين لا تسقيان مع الناس؟ قالتا: ليس لنا قوة تزاحم القوم، وإنما ننتظر فضول حياضهم، فسقى لهما، فجعل يغرف من الدلو ماء كثيرًا حتى كان أول الرعاء، وانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما، وانصرف موسى فاستظل بشجرة {فقال رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير} واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلا بطانا، فقال: إن لكما اليوم لشأنًا، فأخبرتاه بما صنع موسى، فأمر إحداهما أن تدعوه، فأتت موسى فدعته فلما كلمه {قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين}، ليس لفرعون ولا قومه علينا من سلطان، ولسنا فى مملكته فـ{قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الأمين} فاحتملته الغيرة على أن قال لها: ما يدريك ما قوته؟ وما أمانته؟ فقالت: أما قوته: فما رأيت منه فى الدلو حين سقى لنا، لم أر رجلاً قط أقوى فى ذلك السقى منه، وأما الأمانة: فإنه نظر إلى حين أقبلت إليه وشخصت له، فلما علم أنى امرأة صوب رأسه فلم يرفعه حتى بلغته رسالتك، ثم قال لى: امشى خلفى، وانعتى لى الطريق، فلم يفعل هذا إلا وهو أمين، فسرى عن أبيها، وصدقها، وظن به الذى قالت، فقال له: هل لك {أن أنكحك إحدى ابنتى هاتين على أن تأجرنى ثمانى حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدنى إن شاء الله من الصالحين} ففعل، فكانت على نبى الله موسى ثمان سنين واجبة، وكانت السنتان عدة منه، فقضى الله عنه عدته فأتمها عشرا - قال سعيد، هو ابن جبير فلقينى: رجل من أهلل النصرانية من علمائهم، قال: هل تدرى أى الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا، وأنا يومئذ لا أدرى، فلقيت ابن عباس، فذكرت ذلك له، فقال: أما علمت أن ثمانية كانت على نبى الله واجبة لم يكن نبى الله لينقص منها شيئا، وتعلم أن الله كان قاضيًا عن موسى عدته التى وعده، فإنه قضى عشر سنين، فلقيت النصرانى، فأخبرته ذلك، فقال: الذى سألته فأخبرك أعلم منك بذلك؟ قلت: أجل، وأولى - فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصى ويده ما قص الله عليك فى القرآن، فشكا إلى الله تعالى ما يتخوف من آل فرعون فى القتيل وعقدة لسانه، فإنه كان فى لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون ويكون له ردءًا ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فآتاه الله عز وجل وحل عقدة من لسانه، وأوحى الله إلى هارون فأمره أن يلقاه، فاندفع موسى بعصاه حتى لقى هارون، فانطلقا جميعًا إلى فرعون، فأقاما على بابه حينًا لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد، فقالا: {إنا رسولا ربك}، فقال: {فمن ربكما}؟ فأخبره بالذى قص الله عليك فى القرآن، قال: فما تريدان؟ وذكره القتيل، فاعتذر بما قد سمعت، قال: أريد أن تؤمن بالله، وترسل معى بنى إسرائيل، فأبى عليه، وقال: {ائت بآية إن كنت من الصادقين}، فألقى عصاه، فإذا هى ثعبان عظيمة فاغرة فاها، مسرعة إلى فرعون، فلما رأها فرعون قاصدة إليه خافها، واقتحم عن سريره، واستغاث بموسى أن يكفها عنه، ففعل ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء، يعنى من غير برص ثم ردها فعادت إلى لونها الأول فاستشار الملأ حوله فيما رأى فقالوا له: {هذان ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى} يعنى ملكهم الذى هم فيه والعيش، وأبوا على موسى أن يعطوه شيئًا مما طلب، وقالوا له: اجمع السحرة فإنهم بأرضك كثير، حتى تغلب بسحرك سحرهما، فأرسل إلى المدائن، فحشر له كل ساحر متعالم، فلما أتوا فرعون قالوا بم يعمل السحر؟ قالوا: يعمل بالحيات، قالوا: فلا والله ما أحد من الأرض يعمل السحر بالحيات، والحبال والعصى الذى نعمل، وما أجرنا إن نحن غلبنا؟ قال: لهم أنتم أقاربى وخاصتى، وأنا صانع إليكم كل شىء أحببتم، فتواعدوا {يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى} قال سعيد: فحدثنى ابن عباس: أن يوم الزينة: اليوم الذى أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة، هو يوم عاشوراء، فلما اجتمعوا فى صعيد، قال الناس بعضهم لبعض: انطلقوا فلنحضر هذا الأمر، {لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين}، يعنون موسى وهارون استهزاء بهما، فقالوا: يا موسى، بعد تريثهم بسحرهم: {إما أن تلقى وإما أن نكون نحن الملقين} قال: بل ألقوا، فألقوا حبالهم وعصيهم، وقالوا: بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون، فرأى موسى من سحرهم ما أوجس فى نفسه، خيفة فأوحى الله إليه: {أن ألق عصاك}، فلما ألقاها صارت ثعبانًا عظيمة فاغرة فاها، فجعلت العصى تلتبس بالحبال حتى صارت جرزًا على الثعبان أن تدخل فيه، حتى ما أبقت عصا ولا حبلاً إلا ابتلعته، فلما عرف السحرة ذلك، قالوا: لو كان هذا سحرًا لم تبلغ من سحرنا كل هذا، ولكنه أمر من الله تعالى آمنا بالله وبما جاء به موسى، ونتوب إلى الله مما كنا عليه، فكسر الله ظهر فرعون فى ذلك الموطن وأشياعه، وظهر الحق {وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين}، وامرأة فرعون بارزة مبتذلة تدعوا لله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه، فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه، وإنما كان حزنها وهمها لموسى، فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة، كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بنى إسرائيل، فإذا مضت أخلف من غَدِه، وقال: هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل الله على قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات، كل ذلك يشكو إلى موسى، ويطلب إليه أن يكفها عنه، ويوافقه على أن يرسل معه بنى إسرائيل، فإذا كف ذلك عنه أخلف بوعده ونكث عهده، حتى أُمر موسى بالخروج بقومه، فخرج بهم ليلاً، فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا، أرسل فى المدائن حاشرين، فتبعه بجنود عظيمة كثيرة، وأوحى الله إلى البحر: إذا ضربك موسى عبدى بعصاه فانفلق اثنتى عشرة فرقة، حتى يجوز موسى ومن معه، ثم التقى على من بقى بعد من فرعون وأشياعه، فنسى موسى أن يضرب البحر بالعصى، وانتهى إلى البحر وله قصيف، مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل، فيصير عاصيًا لله عز وجل {فلما تراءى الجمعان} وتقاربا {قال أصحاب موسى: إنا لمدركون} افعل ما أمرك به ربك، فإنه لم يكذب، ولم تكذب، قال: وعدنى ربى إذا أتيت البحر انفرق اثنتى عشرة فرقة حتى أجاوزه، ثم ذكر بعد ذلك العصى، فضرب البحر بعصاه حين دنا اوائل جند فرعون من أواخر جند موسى، فانفرق البحر كما أمره ربه، وكما وعد موسى، فلما جاوز موسى وأصحابه كلهم البحر، ودخل فرعون وأصحابه التقى عليهم البحر كما أمر، فلما جاوز موسى قال أصحابه: إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق، ولا نؤمن بهلاكه، فدعا ربه، فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه، ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم {قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون} قد رأيتم من العبر وسمعتم ما يكفيكم، ومضى فأنزلهم موسى منزلاً، وقال: أطيعوا هارون فإن الله قد استخلفه عليكم، فإنى ذاهب إلى ربى، وأجلهم ثلاثين يومًا أن يرجع إليهم فيها، فلما أتى ربه عز وجل وأراد أن يكلمه فى ثلاثين يومًا، وقد صامهن ليلهن ونهارهن وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم، فتناول موسى شيئا من نبات الأرض فمضغه، فقال له ربه حين أتاه: لم أفطرت، وهو أعلم بالذى كان، قال: يا رب، إنى كرهت أن أكلمك إلا وفمى طيب الريح، قال: أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب من ريح المسك، ارجع فصم عشرًا ثم ائتنى، ففعل موسى ما أمره به ربه، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم فى الأجل ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم، فقال: إنكم خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عوارى وودائع، ولكم فيها مثل ذلك، وأنا أرى أن تحتسبوا مالكم عندهم، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية، ولسنا برادين إليهم شيئًا من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا، فحفر حفيرًا، وأمر كل قوم عندهم من ذلك متاع أو حلية أن يقذفوه فى ذلك الحفير، ثم أوقد عليه النار فأحرقه، فقال: لا يكون لنا ولا لهم، وكان السامرى من قوم يعبدون البقر جيران لبنى إسرائيل، ولم يكن من بنى إسرائيل، فاحتمل مع موسى وبنى إسرائيل حين احتملوا، فقضى له أن رأى أثرًا، فقبض منه قبضة، فمر بهارون، فقال له هارون: يا سامرى، إلا تلقى ما فى يديك، وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك، فقال: هذه قبضة من أثر الرسول الذى جاوز بكم البحر، ولا ألقيها لشىء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد، فألقاها، ودعا له هارون، فقال: أريد أن تكون عجلاً، فاجتمع ما كان فى الحفرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد فصار عجلا أجوف، ليس فيه روح، له خوار. قال ابن عباس: لا والله ما كان فيه صوت قط، إنما كانت الريح تدخل من دبره وتخرج من فيه، فكان ذلك الصوت من ذلك، فتفرق بنو إسرائيل فرقًا، فقالت فرقة: يا سامرى، ما هذا وأنت أعلم به؟ قال: هذا ربكم، ولكن موسى أضل الطريق، وقالت فرقة: لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى، فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حتى رأيناه، وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى، وقالت فرقة: هذا من عمل الشيطان، وليس بربنا، ولا نؤمن به ولا نصدق، وأشرب فرقة فى قلوبهم الصدق بما قال السامرى فى العجل، وأعلنوا التكذيب به، فقال لهم هارون عليه السلام: يا قوم، إنما فتنتم به، وإن ربكم الرحمن، ليس هذا، قالوا: فما بال موسى وعدنا ثلاثين يومًا ثم أخلفنا، هذه أربعون يومًا قد مضت؟ قال سفهاؤهم: أخطأ ربه فهو يطلبه ويبتغيه، فلما كلم الله موسى، وقال له ما قال، أخبره بما لقى قومه من بعده، فرجع إلى قومه غضبان أسفًا، فقال لهم ما سمعتم ما فى القرآن {وأخذ برأس أخيه يجره إليه} وألقى الألواح من الغضب، ثم إنه عذر أخاه بعذره، واستغفر له، فانصرف إلى السامرى فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: قبضت قبضة من أثر الرسول، وفطنت لها وعميت عليكم فقذفتها {وكذلك سولت لى نفسى قال فاذهب فإن لك فى الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذى ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه فى اليم نسفا} ولو كان إلهًا لم يخلص إلى ذلك منه، فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة، واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأى هارون، فقالوا لجماعتهم: يا موسى، سل لنا أن يفتح لنا باب توبة نصنعها فتكفر عنا ما عملنا، فاختار موسى قومه سبعين رجلاً لذلك، لا يألوا الخير، خيار بنى إسرائيل، ومن لم يشرك فى الحق، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة، فرجفت بهم الأرض، فاستحيا نبى الله عليه السلام من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل، فقال: {لو شئت لأهلكتهم من قبل وإياى أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} وفيهم من كان الله اطلع منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمان به، فلذلك رجفت بهم الأرض، فقال: {رحمتى وسعت كل شىء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل} فقال: يا رب، سألتك التوبة لقومى، فقلت: إن رحمتى كتبتها لقوم غير قومى، فليتك أخرتنى حتى تخرجنى فى أمة ذلك الرجل المرحوم، فقال له: إن توبتهم أن يقتل كل رجل من لقى من والد وولد، فيقتله بالسيف لا يبالى من قتل فى ذلك الموطن، وتاب أولئك الذين كان خفى على موسى وهارون، واطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا، وغفر الله للقاتل والمقتول، ثم سار بهم موسى عليه السلام متوجهًا نحو الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذى أمر به من الوظائف، فثقل ذلك عليهم، وأبوا أن يقروا بها ونَتَقَ الله عليهم الجبل كأنه ظلة، ودنا منهم، حتى خافوا أن يقع عليهم، وأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون ينظرون إلى الجبل والكتاب بأيديهم، وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم، ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون، خلقهم خلق منكر، وذكر من ثمارهم أمرًا عجبًا من عظمها، فقالوا: يا موسى، إن فيها قومًا جبارين لا طاقة لنا بهم، ولا ندخلها ما داموا فيها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون، قال رجلان من الذين يخافون - قيل ليزيد: هكذا قرأه؟ قال: نعم من الجبارين - آمنا بموسى وخرجنا إليه، فقالوا: نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم، فادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، ويقول أناس: إنهم من قوم موسى، فقال الذين يخافون من بنى إسرائيل {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} فأغضبوا موسى، فدعا عليهم، وسماهم: فاسقين، ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم، حتى كان يومئذ فاستجاب الله له، وسماهم كما سماهم: فاسقين، فحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون فى الأرض، يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار، ثم ظلل عليهم الغمام فى التيه، وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثيابًا لا تبلى ولا تتسخ، وجعل بين ظهرانيهم حجرًا مربعًا، وأمر موسى فضربه بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، فى كل ناحية ثلاثة أعين، وأعلم كل سبط عينهم التى يشربون منها، فلا يرتحلون من محلة إلا وجدوا ذلك الحجر بالمكان الذى كان فيه بالأمس.

رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبى صلى الله عليه وسلم ، وصِدْقُ ذلك عندى: أن معاوية سمع من ابن عباس هذا الحديث، فأنكر عليه أن يكون الفرعونى الذى أفشى على موسى أمر القتيل الذى قتل، فقال: كيف يفشى عليه ولم يكن علم به، ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلى الذى حضر ذلك، فغضب ابن عباس، فأخذ بيد معاوية، فانطلق به إلى سعد بن مالك الزهرى، فقال له: يا أبا إسحاق، هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذى قتل من آل فرعون، الإسرائيلى الذى أفشى عليه أم الفرعونى؟ قال: إنما أفشى عليه الفرعونى بما سمع الإسرائيلى الذى شهد ذلك وحضره. هكذا ساق هذا الحديث الإمام النسائى، وأخرجه ابن جرير وابن أبى حاتم فى تفسيرهما من حديث يزيد بن هارون، والأشبه، والله أعلم، أنه موقوف، وكونه مرفوعًا فيه نظر، وغالبه متلقى من الإسرائيليات، وفيه شىء يسير مصرح برفعه فى أثناء الكلام، وفى بعض ما فيه نظر ونكارة، والأغلب أنه كلام كعب الأحبار، وقد سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزى يقول ذلك، والله أعلم.

التالى