قصة قوم لوط عليه السلام

ومما وقع فى حياة إبراهيم الخليل من الأمور العظيمة قصة قوم لوط عليه السلام، وما حل بهم من النقمة الغميمة، وذلك أن لوطًا بن هاران بن تارح، وهو آزر كما تقدم، ولوط ابن أخى إبراهيم الخليل، فإبراهيم وهاران وناحور أخوة، كما قدمنا، ويقال: إن هاران هذا هو الذى بنى حران، وهذا ضعيف لمخالفته ما بأيدى أهل الكتاب، والله أعلم، وكان لوط قد نزح عن محلة عمه الخليل عليهما السلام بأمره له، وأذنه فنزل بمدينة سدوم من أرض غور زغر، وكان أم تلك المحلة، ولها أرض ومعتملات وقرى مضافة إليها، ولها أهل من أفجر الناس وأكفرهم وأسوأهم طوية وأرداهم سريرة وسيرة، يقطعون السبيل، ويأتون فى ناديهم المنكر، ولا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون، ابتدعوا فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من بنى آدم، وهى إتيان الذكران من العالمين، وترك ما خلق الله من النسوان لعباده الصالحين، فدعاهم لوط إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطى هذه المحرمات والفواحش المنكرات والأفاعيل المستقبحات، فتمادوا على ضلالهم وطغيانهم واستمروا على فجورهم وكفرانهم، فأحل الله بهم من البأس الذى لا يرد ما لم يكن فى خلدهم وحسبانهم، وجعلهم مثلة فى العالمين، وعبرة يتعظ بها الألباء من العالمين، ولهذا ذكر الله تعالى قصتهم فى غير ما موضع من كتابه المبين فقال تعالى فى سورة الأعراف: {ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين}.

وقال تعالى فى سورة هود: {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن رواء إسحاق يعقوب قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوزٌ وهذا بعلى شيخا إن هذا لشىء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا فى قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ولما جاءت رسلنا لوطًا سىء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتى هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون فى ضيفى أليس منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت ما لنا فى بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد قال لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هى من الظالمين ببعيد}.

وقال تعالى فى سورة الحجر: {ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قال لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتمونى على أن مسنى الكبر فبم تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وآتيناك بالحق وإنا لصادقون فاسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفى فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخرون قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتى إن كنتم فاعلين لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن فى ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن فى ذلك لآية للمؤمنين}.

وقال تعالى فى سورة الشعراء: {كذبت لوط لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إنى لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين قال إنى لعملكم من القالين رب نجنى وأهلى مما يعملون فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا فى الغابرين ثم دمرنا الآخرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين إن فى ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم}، وقال تعالى فى سورة النمل: {ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين}.

وقال تعالى فى سورة العنكبوت: {ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون فى ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين قال رب انصرنى على القوم المفسدين ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ولما أن جاءت رسلنا لوطا سىء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون}، وقال تعالى فى سورة الصافات: {وإن لوطا لمن المرسلين إذ نجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا فى الغابرين ثم دمرنا الأخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون}، وقال تعالى فى الذاريات، بعد قصة ضيف إبراهيم وبشارتهم إياه بغلام عليم: {قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم}، وقال فى سورة القمر: {كذبت قوم لوط بالنذر إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر نعمة من عندنا كذلك نجزى من شكر ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابى ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر فذوقوا عذابى ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}.

وقد تكلمنا على هذه القصص فى أماكنها من هذه السورة فى التفسير، وقد ذكر الله لوطًا وقومه فى مواضع أخر من القرآن تقدم ذكرها مع قوم نوح وعاد وثمود، والمقصود الآن إيراد ما كان من أمرهم، وما أحل الله بهم، مجموعا من الآيات والآثار، وبالله المستعان. وذلك: أن لوطا عليه السلام لما دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطى ما ذكر الله عنهم من الفواحش، فلم يستجيبوا له، ولم يؤمنوا به، حتى ولا رجل واحد منهم، ولم يتركوا ما عنه نهوا، بل استمروا على حالهم ولم يرتدعوا عن غيهم وضلالهم، وهموا بإخراج رسولهم من بين ظهرانيهم، وما كان حاصل جوابهم عن خطابهم إذ كانوا لا يعقلون {إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون} فجعلوا غابة المدح ذمًا يقتضى الإخراج، وما حملهم على مقالتهم هذه إلا العناد واللجاج، فطهره الله وأهله، إلا امرأته، وأخرجهم منها أحسن إخراج، وتركهم فى محلتهم خالدين، لكن بعد ما صيرها عليهم بحرة منتنة ذات أمواج، لكنها عليهم فى الحقيقة: نار تأجج وحر يتوهج وماؤها ملح أجاج، وما كان هذا جوابهم إلا لما نهاهم عن الطامة العظمى والفاحشة الكبرى التى لم يسبقهم إليها أحد من أهل الدنيا، ولهذا صاروا مثلة فيها وعبرة لمن عليها، وكانوا مع ذلك يقطعون الطريق ويخونون الرفيق ويأتون فى ناديهم، وهو مجتمعهم ومحل حديثهم وسمرهم، المنكر من الأقوال والأفعال على اختلاف أصنافه، حتى قيل: إنهم كانوا يتضارطون فى مجالسهم ولا يستحيون من مجالسهم، وربما وقع منهم الفعلة العظيمة فى المحافل، ولا يستنكفون ولا يرعوون لوعظ واعظ ولا نصيحة من عاقل، وكانوا فى ذلك وغيره كالأنعام بل أضل سبيلاً، ولم يقلعوا عما كانوا عليه فى الحاضر، ولا ندموا على ما سلف من الماضى، ولا راموا فى المستقبل تحويلاً، فأخذهم الله أخذًا وبيلاً، وقالوا له فيما قالوا: {ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين} فطلبوا منه وقوع ما حذرهم عنه من العذاب الأليم وحلول البأس العظيم، فعند ذلك دعا عليهم نبيهم الكريم، فسأل من رب العالمين وإله المرسلين أن ينصره على القوم المفسدين، فغار الله لغيرته، وغضب لغضبته، واستجاب لدعوته، وأجابه إلى طلبته، وبعث رسله الكرام وملائكته العظام، فمروا على الخليل إبراهيم، وبشروه بالغلام العليم، وأخبروه بما جاءوا له من الأمر الجسيم والخطب العميم: {قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين}، وقال: {ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين}.

وقال الله تعالى: {فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا فى قوم لوط}، وذلك إنه كان يرجوا أن ينيبوا ويسلموا ويقلعوا ويرجعوا، ولهذا قال تعالى: {إن إبراهيم لحليم أواه منيبٌ يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذابٌ غير مردود} أى أعرض عن هذا وتكلم فى غيره، فإنه قد حتم أمرهم، ووجب عذابهم وتدميرهم وهلاكهم {إنه قد جاء أمر ربك} أى قد أمر به من لا يرد أمره ولا يرد بأسه ولا معقب لحكمه {وإنهم آتيهم عذاب غير مردود}.

وذكر سعيد بن جبير والسدى وقتادة ومحمد بن إسحاق: أن إبراهيم عليه السلام جعل يقول: أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن؟ قالوا: لا، قال: فمائتا مؤمن؟ قالوا: لا، قال فأربعون مؤمنا؟ قالوا: لا، قال: فأربعة عشر مؤمنا؟ قالوا: لا، قال ابن إسحاق: إلى أن قال: أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد؟ قالوا: لا؟ {قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها} الآية.

وعند أهل الكتاب أنه قال: يا رب، أتهلكهم وفيهم خمسون رجلا صالحا؟ فقال الله لا أهلكهم وفيهم خمسون صالحا، ثم تنازل إلى عشرة، فقال الله: لا أهلكهم وفيهم عشرة صالحون، قال الله تعالى: {ولما جاءت رسلنا لوطا سىء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يومٌ عصيبٌ}، قال المفسرون: ولما فصلت الملائكة من عند إبراهيم، وهم: (جبريل وميكائيل وإسرافيل)، أقبلوا حتى أتوا أرض سدوم فى صور شبان حسان، اختبارًا من الله تعالى لقوم لوط، وإقامة للحجة عليهم، فاستضافوا لوطا عليه السلام، وذلك عند غروب الشمس، فخشى إن لم يضفهم يضيفهم غيره، وحسبهم بشرًا من الناس {وسيىء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب}.

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومحمد بن إسحاق: شديد بلاؤه وذلك لما يعلم من مدافعته الليلة عنهم، كما كان يصنع بهم فى غيرهم، وكانوا قد اشترطوا عليه أن لا يضيف أحدًا، ولكن رأى من لا يمكن المحيد عنه. وذكر قتادة أنهم وردوا عليه وهو فى أرض له يعمل فيها، فتضيفوا فاستحيى منهم وانطلق أمامهم وجعل يعرض لهم فى الكلام لعلهم ينصرفون عن هذه القرية وينزلوا فى غيرها، فقال لهم فيما قال: يا هؤلاء، ما أعلم على وجه الأرض أهل بلد أخبث من هؤلاء، ثم مشى قليلاً ثم أعاد ذلك عليهم حتى كرره أربع مرات، قال: وكانوا قد أمروا أن لا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم بذلك.

وقال السدى: خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قوم لوط فأتوها نصف النهار فلما بلغوا نهر سدوم لقوا ابنة لوط تستقى من الماء لأهلها، وكانت له ابنتان: اسم الكبرى ريثا، والصغرى ذعرتا، فقالوا لها: يا جارية، هل من منزل؟ فقالت لهم: مكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم، فرقت عليهم من قومها فأتت أباها، فقالت: يا أبتاه، أرادك فتيان على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم قط هى أحسن منهم لا يأخذهم قومك فيفضحوهم، وقد كان قومه نهوه أن يضيف رجلاً، فجاء بهم فلم يعلم أحدا إلا أهل البيت، فخرجت امرأته فأخبرت قومها، فقالت: إن فى بيت لوط رجالاً ما رأيت مثل وجوههم قط، فجاءه قومه يهرعون إليه، وقوله: {ومن قبل كانوا يعملون السيئات} أى هذا مع ما سلف لهم من الذنوب العظيمة الكبيرة الكثيرة {قال يا قوم هؤلاء بناتى هن أطهر لكم} يرشدهم إلى غشيان نسائهم، وهن بناته شرعًا لأن النبى للأمة بمنزلة الوالد، كما ورد فى الحديث، وكما قال تعالى: {النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم}، وفى قول بعض الصحابة والسلف: وهو أب لهم، وهذا كقوله: {أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون} وهذا هو الذى نص عليه مجاهد وسعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة والسدى ومحمد بن إسحاق وهو الصواب. والقول الآخر خطأ مأخوذ من أهل الكتاب، وقد تصحف عليهم كما أخطأوا فى قولهم: إن الملائكة كانوا اثنين، وإنهم تعشوا عنده، وقد خبط أهل الكتاب فى هذه القصة تخبيطًا عظيمًا.

وقوله: {فاتقوا الله ولا تخزون فى ضيفى أليس منكم رجل رشيد} نهى لهم عن تعاطى ما لا يليق من الفاحشة وشهادة عليهم بأنه ليس فيهم رجل له مسكة ولا فيه خير، بل الجميع سفهاء فجرة أقوياء كفرة أغبياء، وكان هذا من جملة ما أراد الملائكة أن يسمعوا منه من قبل أن يسألوه عنه، فقال قومه، عليهم لعنة الله الحميد المجيد، مجيبين لنبيهم فيما أمرهم به من الأمر السديد: {لقد علمت ما لنا فى بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد} يقولون، عليهم لعائن الله: لقد علمت يا لوط إنه لا أرب لنا فى نسائنا، وإنك لتعلم مرادنا وغرضنا، واجهوا بهذا الكلام القبيح رسولهم الكريم ولم يخافوا سطوة العظيم ذى العذاب الأليم، ولهذا قال عليه السلام: {لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد} ود أن لو كان له بهم قوة، أو له منعة وعشيرة ينصرونه عليهم ليحل بهم ما يستحقونه من العذاب على هذا الخطاب.

وقد قال الزهرى: عن سعيد بن المسيب وأبى سلمة، عن أبى هريرة مرفوعًا: نحن أحق بالشك من إبراهيم، ويرحم الله لوطا لقد كان يأوى إلى ركن شديد، ولو لبثت فى السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعى. ورواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة. وقال محمد بن عمرو بن علقمة عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رحمة الله على لوط لقد كان يأوى إلى ركن شديد، يعنى الله عز وجل، فما بعث الله بعده من نبى إلا فى ثروة من قومه).

وقال تعالى: {وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفى فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أو لم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتى إن كنتم فاعلين} فأمرهم بقربان نسائهم، وحذرهم الاستمرار على طريقتهم، وسيئاتهم هذا وهم فى ذلك لا ينتهون ولا يرعوون، بل كلما نصح لهم يبالغون فى تحصيل هؤلاء الضيفان ويحرضون، ولم يعلموا ما حم به القدر مما هم إليه صائرون، وصبيحة ليلتهم إليه منقلبون، ولهذا قال تعالى مقسما بحياة نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه: {لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون}، وقال تعالى: {ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابى ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر} ذكر المفسرون وغيرهم: أن نبى الله لوطا عليه السلام جعل يمانع قومه الدخول، ويدافعهم والباب مغلق، وهم يرومون فتحه وولوجه، وهو يعظهم وينهاهم من وراء الباب، وكل ما لهم فى اللجاج والعاج، فلما ضاق الأمر وعسر الحال قال: {لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد} لأحللت بكم النكال، قالت الملائكة: {يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك} وذكروا أن جبريل عليه السلام خرج عليهم فضرب وجوههم خفقة بطرف جناحه، فطمست أعينهم حتى قيل: إنها غارت بالكلية ولم يبق لها محل ولا عين ولا أثر، فرجعوا يتحسسون مع الحيطان ويتوعدون رسول الرحمن ويقولون: إذا كان الغد كان لنا وله شأن.

قال الله تعالى: {ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابى ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر} فذلك أن الملائكة تقدمت إلى لوط عليهم السلام آمرين له بأن يسرى هو وأهله من آخر الليل {ولا يلتفت منكم أحد} يعنى عند سماع صوت العذاب إذا حل بقومه، وأمروه أن يكون سيره فى آخرهم كالساقة لهم، وقوله: {إلا امرأتك} على قراءة النصب يحتمل أن يكون مستثنى من قوله: فأسر بأهلك، كأنه يقول: إلا امرأتك فلا تسر بها، ويحتمل أن يكون من قوله: {ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك} أى فإنها ستلتفت فيصيبها ما أصابهم، ويقوى هذا الاحتمال قراءة الرفع، ولكن الأول أظهر فى المعنى، والله أعلم.

قال السهيلى: واسم امرأة لوط: والهة، واسم امرأة نوح، والغة، وقالوا له مبشرين بهلاك هؤلاء البغاة العتاة الملعونين النظراء والأشباه الذين جعلهم الله سلفًا لكل خائن مريب: {إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب} فلما خرج لوط عليه السلام بأهله وهم ابنتاه ولم يتبعه منهم رجل واحد، ويقال: إن امرأته خرجت معه، فالله أعلم، فلما خلصوا من بلادهم وطلعت الشمس فكان عند شروقها جاءهم من أمر الله ما لا يرد، ومن البأس الشديد ما لا يمكن أن يصد. وعند أهل الكتاب: أن الملائكة أمروه أن يصعد إلى رأس الجبل الذى هناك فاستبعده وسأل منهم أن يذهب إلى قرية قريبة منهم فقالوا: اذهب فإنا ننتظرك حتى تصير إليها وتستقر فيها، ثم نحل بهم العذاب. فذكروا أنه ذهب إلى قرية: صغر التى يقول الناس: غور زغر، فلما اشرقت الشمس نزل بهم العذاب.

قال الله تعالى: {فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هى من الظالمين ببعيد} قالوا: اقتلعهن جبريل بطرف جناحه من قرارهن وكن سبع مدن بمن فيهن من الأمم، فقالوا: إنهم كانوا أربع مائة نسمة، وقيل: أربعة آلاف نسمة، وما معهم من الحيوانات، وما يتبع تلك المدن من الأراضى والأماكن والمعتملات، فرفع الجميع حتى بلغ بهن عنان السماء حتى سمعت الملائكة أصوات ديكتهم ونباح كلابهم، ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها، قال مجاهد: فكان أول ما سقط منها شرفاتها {وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل} والسجيل: فارسى معرب، وهو: الشديد الصلب القوى {منضود} أى يتبع بعضها بعضا فى نزولها عليهم من السماء {مسومة} أى معلمة مكتوب على كل حجر اسم صاحبه الذى يهبط عليه فيدمغه، كما قال: {مسومة عند ربك للمسرفين}، وكما قال تعالى: {وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين}، وقال تعالى: {والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى} يعنى قلبها فأهوى بها منكسة عاليها سافلها، وغشاها بمطر من حجارة من سجيل متتابعة مرقومة على كل حجر اسم صاحبه الذى سقط عليه من الحاضرين منهم فى بلدهم، والغائبين عنها من المسافرين، والنازحين والشاذين منها، ويقال: إن امرأة لوط مكثت مع قومها، ويقال: إنها خرجت مع زوجها وبنتيها، ولكنها لما سمعت الصيحة وسقوط البلدة والتفتت إلى قومها وخالفت أمر ربها قديمًا وحديثًا، وقالت: واقوماه فسقط عليها حجر فدمغها، وألحقها بقومها إذ كانت على دينهم وكانت عينًا لهم على من يكون عند لوط من الضيفان، كما قال تعالى: {ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين} أى خانتاهما فى الدين فلم يتابعاهما فيه، وليس المراد: أنهما كانتا على فاحشة حاشا وكلا ولما فإن الله لا يقدر على نبى أن تبغى امرأته كما قال ابن عباس وغيره من أئمة السلف والخلف: ما بغت امرأة نبى قط، ومن قال خلاف هذا فقد أخطأ خطأ كبيرًا.

قال الله تعالى فى قصة الإفك لما أنزل براءة أم المؤمنين عائشة بنت الصديق زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فعاتب الله المؤمنين وأنب وزجر ووعظ وحذر وقال فيما قال: {إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم} أى سبحانك أن تكون زوجة نبيك بهذه المثابة، وقوله هاهنا: {وما هى من الظالمين ببعيد} أى وما هذه العقوبة ببعيدة ممن أشبههم فى فعلهم، ولهذا ذهب من ذهب من العلماء إلى أن اللائط يرجم سواء كان محصنًا أو لا، نص عليه الشافعى وأحمد بن حنبل وطائفة كثيرة من الأئمة، واحتجوا أيضا بما رواه الإمام أحمد، وأهل السنن من حديث عمرو بن أبى عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به).

وذهب أبو حنيفة إلى أن اللائط يلقى من شاهق جبل، ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط، لقوله تعالى: {وما هى من الظالمين ببعيد} وجعل الله مكان تلك البلاد بحرة منتنة لا ينتفع بمائها، ولا بما حولها من الأراضى المتاخمة لفنائها لرداءتها ودناءتها، فصارت عبرة ومثلة وعظة وآية على قدرة الله تعالى وعظمته وعزته فى انتقامه ممن خالف أمره وكذب رسله واتبع هواه وعصى مولاه، ودليلاً على رحمته بعباده المؤمنين فى انجائه إياهم من المهلكات، وإخراجه إياهم من النور إلى الظلمات، كما قال تعالى: {إن فى ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم}، وقال تعالى: {فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن فى ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن فى ذلك لآية للمؤمنين} أى من نظر بعين الفراسة والتوسم فيهم، كيف غير الله تلك البلاد وأهلها وكيف جعلها بعد ما كانت آهلة عامرة هالكة غامرة؟ كما روى الترمذى وغيره مرفوعا: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) ثم قرأ: {إن فى ذلك لآيات للمتوسمين}.

وقوله: {وإنها لبسبيل مقيم} أى لبطريق مهيع مسلوك إلى الآن، كما قال: {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون}، وقال تعالى: {ولقد تركناها آية بينة لقوم يعقلون}، وقال تعالى: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم} أى تركناها عبرة وعظة لمن خاف عذاب الآخرة وخشى الرحمن بالغيب وخاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فانزجر عن محارم الله وترك معاصيه وخاف أن يشابه قوم لوط (ومن تشبه بقوم فهو منهم) وإن لم يكن من كل وجه، فمن بعض الوجوه، كما قال بعضهم: فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم، فما قوم لوط منكم ببعيد، فالعاقل اللبيب الخائف من ربه الفاهم يمتثل ما أمره الله به عز وجل، ويقبل ما أرشده إليه رسول الله من إتيان ما خلق له من الزوجات الحلال، والجوارى من السرارى ذوات الجمال، وإياه أن يتبع كل شيطان مريد، فيحق عليه الوعيد، ويدخل فى قوله تعالى: {وما هى من الظالمين ببعيد}.

* * *