ذكر مناظرة إبراهيم الخليل مع من ادعى

الربوبية وهو أحد العبيد الضعفاء

قال الله تعالى: {ألم تر إلى الذى حاج إبراهيم فى ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربى الذى يحى ويميت قال أنا أحى وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذى كفر والله لا يهدى القوم الظالمين}، يذكر تعالى مناظرة خليله مع هذا الملك الجبار المتمرد الذى ادعى لنفسه الربوبية، فأبطل الخليل عليه السلام دليله، وبين كثرة جهله، وقلة عقله، وألجمه الحجه، وأوضح له طريق المحجة.

قال المفسرون وغيرهم من علماء النسب والأخبار: وهذا الملك هو ملك بابل، واسمه النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، قاله مجاهد. وقال غيره: نمرود بن فالح بن عابر بن صالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح. قال مجاهد وغيره: وكان أحد ملوك الدنيا، فإنه قد ملك الدنيا فيما ذكروا أربعة: مؤمنان، وكافران، فالمؤمنان: ذو القرنين، وسليمان، والكافران: النمرود، وبختنصر، وذكروا أن نمرود هذا استمر فى ملكه أربعمائة سنة، وكان قد طغا وبغا وتجبر وعتا وآثر الحياة الدنيا، ولما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا شريك له حمله الجهل والضلال وطول الآمال على إنكار الصانع، فحاج إبراهيم الخليل فى ذلك، وادعى لنفسه الربوبية، فلما قال الخليل: ربى الذى يحى ويميت، قال: أنا أحى وأميت.

قال قتادة والسدى ومحمد بن إسحاق: يعنى أنه إذا أتى بالرجلين قد تحتم قتلهما، فإذا أمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر، فكأنه قد أحيا هذا وأمات الآخر، وهذا ليس بمعارضة للخليل، بل هو كلام خارجى عن مقام المناظرة ليس بمنع ولا بمعارضة، بل هو تشغيب محض، وهو انقطاع فى الحقيقة، فإن الخليل استدل على وجود الصانع بحدوث هذه المشاهدات من إحياء الحيوانات وموتها على وجود فاعل ذلك الذى لابد من استنادها إلى وجوده ضرورة عدم قيامها بنفسها، ولابد من فاعل لهذه الحوادث المشاهدة من خلقها وتسخيرها، وتسيير هذه الكواكب والرياح والسحاب والمطر، وخلق هذه الحيوانات التى توجد مشاهدة ثم إماتتها، ولهذا {قال إبراهيم ربى الذى يحى ويميت} فقول هذا الملك الجاهل: أنا أحى وأميت، إن عنى أنه الفاعل لهذه المشاهدة فقد كابر وعاند، وإن عنى ما ذكره قتادة والسدى ومحمد بن إسحاق، فلم يقل شيئا يتعلق بكلام الخليل، إذ لم يمنع مقدمة ولا عارض الدليل.

ولما كان انقطاع مناظرة هذا الملك قد تخفى على كثير من الناس ممن حضره وغيرهم، ذكر دليلا آخر بين وجود الصانع وبطلان ما ادعاه النمرود وانقطاعه جهرة قال: {فإن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} أى هذه الشمس مسخرة كل يوم تطلع من المشرق كما سخرها خالقها ومسيرها وقاهرها، وهو الله الذى لا إله إلا هو خالق كل شىء، فإن كنت كما زعمت من أنك الذى تحيى وتميت، فأت بهذه الشمس من المغرب، فإن الذى يحى ويميت هو الذى يفعل ما يشاء ولا يمانع ولا يغالب، بل قد قهر كل شىء ودان له كل شىء، فإن كنت كما تزعم فافعل هذا، فإن لم تفعله فلست كما زعمت، وأنت تعلم وكل أحد أنك لا تقدر على شىء من هذا، بل أنت أعجز وأقل من أن تخلق بعوضة أو تنصر منها، فبين ضلاله وجهله وكذبه فيما ادعاه، وبطلان ما سلكه وتبجح به عند جهلة قومه، ولم يبق له كلام يجيب الخليل به بل انقطع وسكت ولهذا قال: {فبهت الذى كفر والله لا يهدى القوم الظالمين}.

وقد ذكر السدى: أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم وبين النمرود يوم خرج من النار، ولم يكن اجتمع به يومئذ، فكانت بينهما هذه المناظرة. وقد روى عبد الرزاق عن معمر، عن زيد بن أسلم: أن النمرود كان عنده طعام، وكان الناس يفدون إليه للميرة، فوفد إبراهيم فى جملة من وفد للميرة، فكان بينهما هذه المناظرة، ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس، بل خرج وليس معه شىء من الطعام، فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه، وقال: أشغل أهلى إذا قدمت عليهم، فلما قدم وضع رحاله، وجاء فاتكأ فنام، فقامت إمرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعامًا طيبًا، فعملت منه طعامًا، فلما استيقظ إبراهيم وجد الذى قد أصلحوه، فقال: أنى لكم هذا؟ قالت: من الذى جئت به، فعرف أنه رزق رزقهموه الله عز وجل.

قال زيد بن أسلم: وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكًا يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه، ثم دعاه الثانية فأبى عليه، ثم الثالثة فأبى عليه، وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعى، فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس، فأرسل الله عليه ذبابًا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس، وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودمائهم وتركتهم عظامًا بادية، ودخلت واحدة منها فى منخر الملك فمكثت فى منخره أربعمائة سنة عذبه الله تعالى بها، فكان يضرب رأسه بالمرازب فى هذه المدة كلها، حتى أهلكه الله عز وجل بها.

هجرة الخليل إلى بلاد الشام ثم الديار المصرية

واستقراره فى الأرض المقدسة

قال الله تعالى: {فآمن له لوط وقال إنى مهاجر إلى ربى إنه هو العزيز الحكيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا فى ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره فى الدنيا وإنه فى الآخرة لمن الصالحين}، وقال تعالى: {ونجيناه ولوطا إلى الأرض التى باركنا فيها للعالمين ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين} لما هجر قومه فى الله وهاجر من بين أظهرهم، وكانت امرأته عاقرا لا يولد لها، ولم يكن له من الولد أحد، بل معه ابن أخيه لوط بن هاران بن آزر، وهبه الله تعالى بعد ذلك الأولاد الصالحين، وجعل فى ذريته النبوة والكتاب، فكل نبى بعث بعده فهو من ذريته، وكل كتاب نزل من السماء على نبى من الأنبياء من بعده فعلى أحد نسله وعقبه، خلعة من الله، وكرامة له حين ترك بلاده وأهله وأقرباءه وهاجر إلى بلد يتمكن فيها من عبادة ربه عز وجل ودعوة الخلق إليه، والأرض التى قصدها بالهجرة أرض الشام، وهى التى قال الله عز وجل: {إلى الأرض التى باركنا فيها للعالمين} قاله أُبى ابن كعب وأبو العالية وقتادة وغيرهم.

وروى العوفى عن ابن عباس قوله: {إلى الأرض التى باركنا فيها للعالمين} مكة ألم تسمع إلى قوله: {إن أول بيت وضع للناس للدى ببكة مباركا وهدى للعالمين}. وزعم كعب الأحبار أنها حران، وقد قدمنا عن نقل أهل الكتاب: أنه خرج من أرض بابل هو وابن أخيه لوط وأخوه ناحور وامرأة إبراهيم سارة وامرأة أخيه ملكا، فنزلوا حران، فمات تارح أبو إبراهيم بها.

وقال السدى: انطلق إبراهيم ولوط قبل الشام فلقى إبراهيم سارة، وهى ابنة ملك حران، وقد طعنت على قومها فى دينهم، فتزوجها على أن لا يغيرها. رواه ابن جرير، وهو غريب. والمشهور أنها ابنت عمه هاران الذى تنسب إليه حران، ومن زعم أنها ابنة أخيه هاران أخت لوط، (كما حكاه السهيلى عن القتيبى والنقاش)، فقد أبعد النجعة، وقال بلا علم، وادعى أن تزويج بنت الأخ كان إذ ذاك مشروعًا، فليس له على ذلك دليل. ولو فرض أن هذا كان مشروعًا فى وقت كما هو منقول عن الربانيين من اليهود، فإن الأنبياء لا تتعاطاه، والله أعلم.

ثم المشهور أن إبراهيم عليه السلام لما هاجر من بابل خرج بسارة مهاجرًا من بلاده كما تقدم، والله أعلم. وذكر أهل الكتاب: أنه لما قدم الشام أوحى الله إليه إنى جاعل هذه الأرض لخلفك من بعدك، فابتنى إبراهيم مذبحًا لله شكرًا على هذه النعمة، وضرب قبته شرقى بيت المقدس، ثم انطلق مرتحلاً إلى التيمن، وأنه كان جوع، أى قحط وشدة وغلاء، فارتحلوا إلى مصر، وذكروا قصة سارة مع ملكها، وأن إبراهيم قال لها: قولى: أنا أخته، وذكروا إخدام الملك إياها هاجر، ثم إخراجهم منها، فرجعوا إلى بلاد التيمن، يعنى أرض بيت المقدس وما والاها، ومعه دواب وعبيد وأموال.

وقد قال البخارى: حدثنا محمد بن محبوب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن أبى هريرة، قال: لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: ثنتان منهن فى ذات الله، قوله: {إنى سقيم} وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا} وقال: بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة، فقيل له: هاهنا رجل معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه وسأله عنها، فقال: من هذه؟ قال: أختى، فأتى سارة، فقال: يا سارة، ليس على وجه الأرض مؤمن غيرى وغيرك، وإن هذا سألنى فأخبرته أنك أختى، فلا تكذبينى، فأرسل إليها، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده، فأخذ، فقال: ادعى الله لى ولا أضرك، فدعت الله فأطلق، ثم تناولها الثانية فأخذ مثلها أو أشد، فقال: ادعى الله لى ولا أضرك، فدعا بعض حجبته، فقال: إنك لم تأتنى بإنسان وإنما أتيتنى بشيطان، فأخدمها هاجر، فأتته وهو قائم يصلى، فأومأ بيده مهيم، فقالت: رد الله كيد الكافر أو الفاجر فى نحره، وأخدم هاجر. قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بنى ماء السماء، تفرد به من هذا الوجه موقوفًا.

وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار عن عمرو بن على الفلاس، عن عبد الوهاب الثقفى، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبراهيم لم يكذب قط إلا ثلاث كذبات، كل ذلك فى ذات الله، قوله: {إنى سقيم} وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا} وبينما هو يسير فى أرض جبار من الجبابرة إذ نزل منزلاً، فأتى الجبار، فقيل له: إنه قد نزل هاهنا رجل معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنها، فقال: إنها أختى، فلما رجع إليها، قال: إن هذا سألنى عنك، فقلت: إنك أختى، وإنه ليس اليوم مسلم غيرى وغيرك، وإنك أختى فلا تكذبينى عنده، فانطلق بها، فلما ذهب يتناولها أخذ، فقال: ادعى الله لى ولا أضرك، فدعت له فأرسل، فذهب يتناولها فأخذ مثلها أو أشد منها، فقال: ادعى الله لى ولا أضرك، فدعت، فأرسل، ثلاث مرات، فدعا أدنى حشمه، فقال: إنك لم تأتنى بإنسان ولكن أتيتنى بشيطان، أخرجها وأعطها هاجر، فجاءت وإبراهيم قائم يصلى، فلما أحس بها انصرف، فقال: مهيم، فقالت: كفى الله كيد الظالم، وأخدمنى هاجر. )

وأخرجاه من حديث هشام ثم قال البزار: لا نعلم أسنده عن محمد عن أبى هريرة إلا هشام ورواه غيره موقوفًا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا على بن حفص، عن ورقاء، هو ابن عمر اليشكرى، عن أبى الزناد، عن الأعرج، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، قوله حين دعى إلى آلهتهم فقال: {إنى سقيم} وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا} وقوله لسارة: أنها أختى، قال: ودخل إبراهيم قرية فيها ملك من الملوك، أو جبار من الجبابرة، فقيل: دخل إبراهيم الليلة بامرأة من أحسن الناس، قال: فأرسل إليه الملك أو الجبار: من هذه معك؟ قال: أختى، قال: فأرسل بها، قال: فأرسل بها إليه، وقال: لا تكذبى قولى، فإنى قد أخبرته أنك أختى، إنه ليس على الأرض مؤمن غيرى وغيرك، فلما دخلت عليه قام إليها، فأقبلت توضأ وتصلى، وتقول: اللهم إن كنت تعلم أنى آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجى إلا على زوجى، فلا تسلط على الكافر. قال: فغط حتى ركض برجله.)

قال أبو الزناد: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبى هريرة: أنها قالت: اللهم إن يمت يقال: هى قتلته، قال: فأرسل، قال: ثم قام إليها، قال: فقامت توضأ وتصلى وتقول: اللهم إن كنت تعلم أنى آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجى إلا على زوجى، فلا تسلط على الكافر، قال: فغط حتى ركض برجله. قال أبو الزناد: وقال أبو سلمة عن أبى هريرة: أنها، قالت: اللهم إن يمت يقل هى قتلته، قال: فأرسل، قال: فقال فى الثالثة أو الرابعة: ما أرسلتم إلى إلا شيطانًا، أرجعوها إلى إبراهيم، وأعطوها هاجر، قال: فرجعت، فقالت لإبراهيم: أشعرت أن الله رد كيد الكافر وأخدم وليدة. تفرد به أحمد من هذا الوجه وهو على شرط الصحيح. وقد رواه البخارى عن أبى اليمان، عن شعيب بن أبى حمزة، عن أبى الزناد، عن الأعرج، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم به مختصرًا.

وقال ابن أبى حاتم: حدثنا أبى، حدثنا سفيان، عن على بن زيد بن جدعان، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فى كلمات إبراهيم الثلاث التى قال ما منها كلمة إلا ماحل بها عن دين الله : فقال: {إنى سقيم}، وقال : {فعله كبيرهم هذا}، وقال للملك حين أراد امرأته: هى أختى، فقوله فى الحديث: هى أختى، أى فى دين الله، وقوله لها: إنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيرى وغيرك، يعنى زوجين مؤمنين غيرى وغيرك، ويتعين حمله على هذا، لأن لوطًا كان معهم وهو نبى عليه السلام، وقوله لها لما رجعت: إليه مهيم، معناه ما الخبر؟ فقالت: إن الله رد كيد الكافر. وفى رواية: الفاجر وهو الملك، وأخدم جارية، وكان إبراهيم عليه السلام من وقت ذهب بها إلى الملك قام يصلى لله عز وجل، ويسأله أن يدفع عن أهله، وأن يرد بأس هذا الذى أراد أهله بسوء، وهكذا فعلت هى أيضًا، فلما أراد عدو الله أن ينال منها أمرًا قامت إلى وضوئها وصلاتها، ودعت الله عز وجل بما تقدم من الدعاء العظيم، ولهذا قال تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} فعصمها الله وصانها، لعصمة عبده ورسوله وحبيبه وخليله إبراهيم عليه السلام.

وقد ذهب بعض العلماء إلى نبوة ثلاث نسوة: (سارة، وأم موسى، ومريم عليهن السلام)، والذى عليه الجمهور: أنهن صديقات، رضى الله عنهم وأرضاهن. ورأيت فى بعض الآثار: أن الله عز وجل كشف الحجاب فيما بين إبراهيم عليه السلام وبينها، فلم يزل يراها منذ خرجت من عنده إلى أن رجعت إليه، وكان مشاهدًا لها وهى عند الملك وكيف عصمها الله منه، ليكون ذلك أطيب لقلبه، وأقر لعينه، وأشد لطمأنينته، فإنه كان يحبها حبًا شديدًا لدينها وقرابتها منه وحسنها الباهر، فإنه قد قيل: إنه لم تكن امرأة بعد حواء إلى زمانها أحسن منها، رضى الله عنها، ولله الحمد والمنة.

وذكر بعض أهل التواريخ: أن فرعون مصر هذا كان أخًا للضحاك الملك المشهور بالظلم، وكان عاملاً لأخيه على مصر، ويقال: كان اسمه سنان بن علوان بن عبيد بن عويج بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح. وذكر ابن هشام فى التيجان: أن الذى أرادها عمرو بن امرىء القيس بن مايلون بن سبأ وكان على مصر، نقله السهيلى، فالله أعلم.

ثم إن الخليل عليه السلام رجع من بلاد مصر إلى أرض التيمن، وهى الأرض المقدسة التى كان فيها ومعه أنعام وعبيد ومال جزيل، وصحبتهم هاجر القبطية المصرية، ثم إن لوطًا عليه السلام نزح بما له من الأموال الجزيلة بأمر الخليل له فى ذلك إلى أرض الغور بالمعروف بغور زغر، فنزل بمدينة سدوم، وهى أم تلك البلاد فى ذلك الزمان، وكان أهلها أشرارًا كفارًا فجارًا، وأوحى الله تعالى إلى إبراهيم الخليل فأمره أن يمد بصره وينظر شمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا، وبشره بأن هذه الأرض كلها سأجعلها لك ولخلفك إلى آخر الدهر، وسأكثر ذريتك حتى يصيروا بعدد تراب الأرض، وهذه البشارة اتصلت بهذه الأمة، بل ما كملت ولا كانت أعظم منها فى هذه الأمة المحمدية، يؤيد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله زوى لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها). قالوا: ثم إن طائفة من الجبارين تسلطوا على لوط عليه السلام فأسروه وأخذوا أمواله واستاقوا أنعامه، فلما بلغ الخبر إبراهيم سار إليهم فى ثلاثمائة وثمانية رجلاً، فاستنقذ لوطًا عليه السلام واسترجع أمواله، وقتل من أعداء الله ورسوله خلقًا كثيرًا وهزمهم، وساق فى آثارهم حتى وصل إلى شرقى دمشق وعسكر بظاهرها عند برزة، وأظن مقام إبراهيم إنما سمى لأنه كان موقف جيش الخليل، والله أعلم.

ثم رجع مؤيدًا منصورًا إلى بلاده، وتلقاه ملوك بلاد بيت المقدس معظمين له مكرمين خاضعين، واستقر ببلاده، صلوات الله وسلامه عليه.

ذكر مولد إسماعيل عليه السلام من هاجر

قال أهل الكتاب: إن إبراهيم عليه السلام سأل الله ذرية طيبة، وأن الله بشره بذلك، وأنه لما كان لإبراهيم ببلاد بيت المقدس عشرون سنة، قالت سارة لإبراهيم عليه السلام: إن الرب قد أحرمنى الولد، فادخل على أمتى هذه لعل الله يرزقنى منها ولدًا، فلما وهبتها له، دخل بها إبراهيم عليه السلام، فحين دخل بها حملت منه قالوا: فلما حملت ارتفعت نفسها وتعاظمت على سيدتها، فغارت منها سارة، فشكت ذلك إلى إبراهيم، فقال لها: افعلى بها ما شئت، فخافت هاجر، فهربت، فنزلت عند عين هناك، فقال لها ملك من الملائكة: لا تخافى فإن الله جاعل من هذا الغلام الذى حملت خيرًا، وأمرها بالرجوع، وبشرها أنها ستلد ابنا وتسميه إسماعيل، ويكون وحش الناس، يده على الكل ويد الكل به، ويملك جميع بلاد إخوته، فشكرت الله عز وجل على ذلك، وهذه البشارة إنما انطبقت على ولده محمد صلوات الله وسلامه عليه، فإنه الذى سادت به العرب، وملكت جميع البلاد غربًا وشرقًا، وأتاها الله من العلم النافع والعمل الصالح ما لم تؤت أمة من الأمم قبلهم، وما ذاك إلا بشرف رسولها على سائر الرسل، وبركة رسالته، ويمن بشارته، وكماله فيما جاء به، وعموم بعثته لجميع أهل الأرض. ولما رجعت هاجر وضعت إسماعيل عليه السلام، قالوا: وولدته ولإبراهيم من العمر ست وثمانون سنة، قبل مولد إسحاق بثلاث عشرة سنة، ولما ولد إسماعيل أوحى الله إلى إبراهيم يبشره بإسحاق من سارة، فخر لله ساجدًا، وقال له: قد استجبت لك فى إسماعيل وباركت عليه وكثرته ونميته، جدًا كثيرًا، ويولد له اثنا عشر عظيمًا، وأجعله رئيسا لشعب عظيم، وهذه أيضًا بشارة بهذه الأمة العظيمة.

وهؤلاء الاثنا عشر عظيما هم الخلفاء الراشدون الاثنا عشر المبشر بهم فى حديثه عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (يكون اثنا عشر أميرًا). ثم قال كلمة لم أفهمها، فسألت أبى: ما قال؟ قال: كلهم من قريش، أخرجاه فى الصحيحين. وفى رواية: (لا يزال هذا الأمر قائمًا، وفى رواية: عزيزا، حتى يكون اثنا عشر خليفة كلهم من قريش، فهؤلاء منهم الأئمة الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، ومنهم: عمر بن عبد العزيز أيضًا ومنهم: بعض بنى العباس، وليس المراد أنهم يكونون اثنى عشر نسقًا، بل لابد من وجودهم، وليس المراد الأئمة الاثنى عشر الذى يعتقد فيهم الرافضة الذين أولهم على بن أبى طالب، وآخرهم المنتظر بسرداب سامرا، وهو محمد بن الحسن العسكرى فيما يزعمون، فإن أولئك لم يكن فيهم أنفع من على وابنه الحسن بن على حين ترك القتال وسلم الأمر لمعاوية، وأخمد نار الفتنة، وسكن رحى الحروب بين المسلمين، والباقون من جملة الرعايا لم يكن لهم حكم على الأمة فى أمر من الأمور، وأما ما يعتقدونه بسرداب سامرا فذاك هوس فى الرءوس وهذيان فى النفوس، لا حقيقة له ولا عين ولا أثر.

والمقصود أن هاجر عليها السلام لما ولد لها إسماعيل اشتدت غيرة سارة منها، وطلبت من الخليل أن يغيب وجهها عنها، فذهب بها وبولدها فسار بهما حتى وضعهما حيث مكة اليوم، ويقال: إن ولدها كان إذ ذاك رضيعًا، فلما تركهما هناك وولى ظهره عنهما قامت إليه هاجر وتعلقت بثيابه، وقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتدعنا هاهنا وليس معنا ما يكفينا؟ فلم يجبها، فلما ألحت عليه وهو لا يجيبها، قالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: فإذًا لا يضيعنا. وقد ذكر الشيخ أبو محمد بن أبى زيد، رحمه الله، فى كتاب النوادر: أن سارة تغضبت على هاجر، فحلفت لتقطعن ثلاثة أعضاء منها، فأمرها الخليل أن تثقب أذنيها، وأن تخفضها فتبر قسمها، قال السهيلى: فكانت أول من اختتن من النساء وأول من ثقبت أذنها منهن، وأول من طولت ذيلها.

التالى