Holy Friday

قبل الموعد المعلن اعلامياً بساعة او ساعتين وصل جمهور السيدة فيروز الى باحة كاتدرائية مار جاورجيوس في ساحة النجمة ببيروت، وما هي الا دقائق حتى علم هؤلاء انهم وصلوا قبل الموعد الفعلي بثلاث او اربع ساعات. والسبب بقي مجهولا. الكل، تقريباً، نسب الخطأ الى الصحف. قليلون اعتبروا ان الصحف مثلهم <<أوقعت بالخطأ>>. وعلى الرغم من ذلك، لم يُبدِ أحد من المنتظرين اعتراضاً.
بدا الامر عادياً، على غير عادة اللبنانيين في انتظارات أقل وقتاً، اذ انتظر، امس، المئات لمدة ثلاث ساعات على الاقل، بعدما تأخر الموعد من الخامسة، كما كان مقرراً وأعلن في الصحف، الى السابعة، وبالتحديد السابعة الا خمساً من الدقائق.
كان الانتظار فصلا من الطقس الفيروزي، الذي تسبب بلقاءات اصدقاء <<مشتاقين لبعضهم البعض>>، وبلقاءات تعارف. حصل ذلك في باحة الكنيسة، بين مدخلها والدرج، وقليل منه في ساحة النجمة، اذ خيّم على معظم الموجودين شبح الخوف من مغادرة المكان وفي هذه الحال سيصعب دخول الكنيسة التي لم تبق مجموعة من المنتظرين الا وتساءلت عن حجمها: <<أهي كبيرة ام صغيرة؟ أتتسع لهذا العدد؟>> امرأة واحدة، في عقدها الخامس او السادس، تذكرت الكنيسة وهي تدخلها، قالت: <<كنا نجي لهون قبل الحرب>>. ولم تخف شعورها <<بامتياز>> بريء يبرر لها استعجالها الدخول، كأنها تستعيد اجزاء من سيرتها او ذاكرتها. فيما الآخرون، والاغلبية من الشباب، قصدوا الكنيسة للمرة الاولى.. قصدوها لان فيروز سترتل فيها، وقد تحقق للحاضرين المنتظرين ذلك بعد ساعات. وما ان فتح الباب حتى تدافع الجميع نحوه، الذين كانوا في ساحة النجمة وعلى طاولات مقاهيها تركوا كل شيء فجأة، بلحظة واحدة وانهمروا على الدرج... هذه المرة <<صحيحة>> وقد صدقوها بعدما وقعوا غير مرة فريسة ما يشبه المزاح او استدعاء صديق على عجل... نحو الباب... ومن فعل ذلك لا احد يعرف. كان القريبون من الباب يصفقون لسبب ما، او من دون سبب، لينشد البعيدين الى المدخل.
هذه المرة <<صحيحة>>، واشتد الزحام. عند الباب صراخ متكرر يختصر الألم من دفشة ما، والفرح من تجاوز المرحلة الصعبة واقتراب الوقوف امام فيروز. وما هي إلا دقائق حتى امتلأت الكاتدرائية. ومن بقي خارجا تكيف مع الامر، او تسلل بعد حين، فتحولت الباحة الخارجية من فسحة للانتظار الى مساحة للإنصات. ولم يبق في الخارج <<العلمانيون>> مثلا او فقط. الذين بقوا خارجا هم ممن وصلوا متأخرين و<<لم يحالفهم الحظ>>، قالت واحدة لرفيقتها، كانوا شبابا ورجالا ونساء، ينصتون ويتبادلون، بين حين وآخر، حديثا من هنا وآخر من هناك، وبهدوء.
في الداخل المشهد فيروزي بامتياز. الكل مشدود إليها، وهي لم تتأخر، وصلت الى المذبح من الخلف، وسريعا جلست، وجهها هو هو، <<الكحل>> يزيد العينين حزنا وأحمر الشفاه <<يتمرد>> قليلا. والكل يتقدم ليقترب منها، او يقف على اصابع قدميه لينظر إليها، ليراها او يتحايل على عمود او رأس امامه، يحول بينه وبين السيدة التي ترتل والتي افترش اولاد صغار امتاراً امامها، وانضم إليهم فتيات وامهات. الشباب ما استطاعوا ذلك، كان الحراس لهم بالمرصاد.
بدأ <<الاحتفال الاحتفاء>> بالصوت باكراً او سريعا، فاستقام المشهد واكتمل، هي ترتل والحاضرون في حراك، فرادى وجماعات، الى الامام اقترابا منها. والباب من الجهة الجنوبية للكاتدرائية انضم الى المدخل الرئيسي في دفع الهواء البارد من جهة حديقة السماح حيث ترقد آثار بيروت.
ها هي فيروز ترتل في كاتدرائية قاومت قدر الامكان الحرب... (الذكرى الثامنة والعشرون للحرب منذ نحو اسبوعين) وهي اليوم قبل ان تدخل الخدمة الدينية تحاول من خلال صوت فيروز ان تبرز الرسومات القديمة على جدرانها من دون ترميم ومحاولات <<اخفاء>> الثقوب التي احدثتها الشظايا والرصاصات، رتلت فيروز او <<غنّت>> مع جوقة متواضعة واستمع إليها، في تلك الكنيسة، أناس، بلا مبالغة او تلطيف فولكلوري، من لبنان كله ومن خارجه القريب جدا. وربما كان الذين لا يعرفون التراتيل اكثر عدداً من الذين يتقنون تردادها والتماهي بها عبر صوت فيروز. بدا ذلك واضحا على وجوه الجالسين والواقفين على ضوء الشموع في بهو الكنيسة المتواضعة والعريقة ولو كانت من دون ثريات تنتظرها لتتدلى بين العقود التي جددت.

فيروز ترتّل في كاتدرائية مار جاورجيوس: الانتصار من كل لبنان على الدمار والحرب