أحداث في عهد الدولة الأموية

 

أولاً - عهد معاوية بن أبي سفيان

 

  بعد اتفاق الصلح في الكوفة واستيلاء معاوية على الحكم ، عاد إلى الشام وخطب في الناس فقال إني وليتكم لا لصلاة ولا لزكاة بل لكي آمركم فأطيعوا !! فكانت مقولته تلك إعلان لفصل الدين عن السياسة كما يعبر عنه بالمفهوم الحديث ، وبمثابة بدء مرحلة جديدة لنظام الحكم الإسلامي حيث كان الرسول (ص) والخلفاء الأربعة من بعده كانوا قادة دينيون فأصبح معاوية أول قائد سياسي في الإسلام .

  إن معاوية الذي أعلن فصل الدين عن السياسة ، قد اتخذ ذلك صراحةً لأنه لم يكن فقيهاً بدين الله ولم يكن ذو ميول إيمانية . فقد مضى معاوية أكثر عمره مشركاً يعبد الأصنام وعندما أُجبر على الإسلام لم يبقى كثيراً في أجواء العبادة في مكة أو المدينة بل انتقل إلى الشام وبقي هناك حتى أصبح واليا ثم خليفة على المسلمين . فلم يتطبع معاوية بخلق إيماني ولذلك كان يشتم الإمام علي منذ خروجه عن طاعته كخليفة للمسلمين ، ولم يلتزم بما عاهد وأتفق عليه مع أهل الكوفة عند الصلح . فلما استولى على الحكم أصدر أمره إلى كافة أرجاء الدولة الإسلامية بسب الإمام علي على المنابر ( انظر صحيح مسلم ج2 ص360 ، الترمذي ج5 ص301-308 ) . وبعد أن كان سب الإمام علي علنا في الشام فقط ، أصبحت المنابر في كل أرجاء الدولة الإسلامية تسبه بأمر من معاوية ( أنظر أُسد الغابة لابن الأثير ج1 ص134 ). يروي الطبري وابن الأثير أن كل من كان يصعد المنبر  يبتدئ بسب الإمام علي !! وكذلك الولاة في حكومته كانوا يحرّضون الناس على سب الإمام علي ويقربون إليهم كل من يسبه ( تاريخ الطبري ج5 ص167 ، الكامل في التاريخ ج3 ص413). وذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء أنه بلغ عدد المنابر التي كانت تُشتم عليها الإمام علي سبعون ألفاً !!

  إن قرار سب الإمام علي الذي اتخذه معاوية دليل على أنه لم يكن ذو مبادئ وقيم أخلاقية ناهيك عن الخلق الديني . فقد أمر بسب من أمر الله مودته " قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى " (32 الشورى) .

 

 

نظام الحكم الأموي

 

  بمجرد السيطرة على الدولة الإسلامية قام معاوية بتتبع وقتل أصحاب الإمام علي وأهل بيته ومن وقف معه في معركة صفين من ضمنهم حجر بن عدي وأصحابه . وقام أيضا بدس السم في طعام الحسن بن علي أبن أبي طالب سبط رسول الله (ص) حتى يضمن عدم عودة الحكم بعده إليه . وعمد على تشريد كل من كان في جيش الكوفة حيث نفى جزء كبير منهم إلى خراسان وهمدان . كل ذلك من أجل ضمان عدم عودة قوى معارضة له ، ولم يكتفي بذلك فأخذ يعادي أهل البيت ويضغط عليهم ويلاحق من يقتدي بهم أو يتقرب إليهم . فالنور الإيماني الذي يشعه أهل البيت الذين طهرهم الله تطهيراً يثبت مكانتهم الروحية في قلوب الناس ،  ورأى معاوية أن ذلك وسيلة سريعة لظهورهم كقيادة إسلامية مما يسبب خطرا على  حكمه . فالناس كل يوم في صلاتهم يذكرون أهل البيت ولا يذكرون معاوية وبهذه الطريقة فإن الفرصة سانحة لأهل البيت للظهور كقوى معارضة مرةً أخرى ، ووجد معاوية أن الحل يكمن في إضعاف المكانة الروحية لأهل البيت ، ووجد أنه يستوجب عليه أيضاً خلق مكانة روحية له عند الناس ، وبهذه الطريقة يمكن أن تصل الأمور على أقل تقدير إلى مساواته مع أهل البيت ، وبذلك يزول خطرهم ويضمن استمرار الولاء له وبالتالي زوال الخطر عن حكمه . ولتحقيق ذلك بدأ معاوية بتقريب كل من يمكن من خلاله تحقيق هدفه ، وأخذ يغدق المال ويقرب ضعاف النفوس ثم يطلب منهم أن يحدثوا روايات ترفع من مكانته وتضع له فضائل ، وبالمقابل توضع روايات تسيء إلي أهل البيت !

 

  يقول الإمام محمد عبده في كتابه المقدمة :  إن معاوية وضع قوماً من الصحابة والتابعين على رواية أخبار سيئة في علي بن أبي طالب تطعن فيه والبراءة منه وأغراهم منهم أبو هريرة !! ( انظر مقدمة على رسالة التوحيد ص7-8 ). وذكر المدائني في التأملات في الصحيحين أن معاوية طلب من الولاة أن يظلموا الموالين لعلي وأهل بيته وطلب منهم أن توضع أحاديث وراويات ضدهم وبالمقابل توضع روايات ترفع  من شأن معاوية والخلفاء الثلاثة فقط ! وقال المدائني :   وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القّراء والمراءون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقدروا مجالسهم ويصبوا به الأموال والضياع والمنازل حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق ولو علموا أنها باطل لما رووها ولا تدينوا بها . ( تأملات في الصحيحين للمدائني ص42-44 ) . روى مسلم عن مجاهد أن بشير العدوي جاء إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول : قال رسول الله (ص) فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه . فقال بشير : يا ابن عباس مالي لا أراك تسمع لحديثي ؟ أُحدثك عن رسول الله ولا تسمع . فقال ابن عباس : إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول قال رسول الله ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا ، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا بما نعرف .

  وأتهم الشيخ محمود أبو ريه كل من أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة بوضع الأحاديث المكذوبة ( انظر كتاب أبو هريرة لمحمود أبو ريه ص236 ) .

 

  استطاع معاوية بتلك الطريقة استمالة ضعاف النفوس من بعض الصحابة كأبي هريرة والمغيرة بن شعبة وآخرين لخلق روايات وأحاديث تمجد معاوية وتجعل له فضائل كثيرة بلغت إلى حد أنهم زعموا أن جبرائيل عليه السلام كلم معاوية ذات مرة عندما كان كاتبا للوحي ! فقالوا أن الرسول (ص) لم يكن يعلم ما كان يخبره جبرائيل لأنه كان غائباً عن الوعي وهو ينطق ليكتب معاوية وعليه فإن معاوية كان يعلم قبل الرسول (ص) ولما يستيقظ الرسول (ص) يستفسر عما كتبه معاوية فيخبره معاوية !! أي أن جبرائيل كان يكلم معاوية !! هكذا كانت تُختلق الفضائل لمعاوية ، علماً بأن الواقع كان عكس ذلك تماماً فعندما كان ينـزل الوحي على النبي (ص) كان النبي (ص) يرسل في طلب الصحابة كُتّاب الوحي لكي يكتبوا الآيات القرآنية وذات مرة أرسل إلى معاوية فجاء الرد أن معاوية كان يأكل فأرسل إليه ثانية فجاءه الرد أيضا أنه يأكل ثم كرر الثالثة فكان يأكل فقال النبي (ص) :  لا أشبع الله بطنه . (صحيح مسلم كتاب البر والصلة باب من لعنه النبي ) . وقيل أن دعوة النبي (ص) تلك أدت إلى أنه أصبح شرهاً للأكل حتى أصبح له كرش تعيقه عند القيام والجلوس .

 

  ازدادت الروايات المختلقة تمجد في معاوية حتى كاد أن يصبح في مقدمة من لهم فضائل في الإسلام !! فأمر معاوية بخلق روايات أخرى تمجد الخليفة عثمان ثم أبو بكر وعمر . ووجد الضعاف النفوس الطريق للكسب المادي يمر عبر اللسان فاختلقوا ما بدا لهم ، فقول عدة عبارات تعني المال والجاه والتقريب من السلطان . ورأى البعض صعوبة خلق رواية تسيء إلى أهل البيت لكن خلق روايات تمجد في أعدائهم أو الخلفاء الثلاث أهون بكثير ، فظهرت فضائل لصحابة تفوق فضائل أهل البيت ! ونُسبت بعض فضائل أهل البيت إلى بعض الصحابة ، وأشركوا الصحابة بفضائل لأهل البيت حتى الصلاة على النبي وآله أُضيف إليهم الصحابة فأصبح يقال " اللهم صلي على محمد وآله وأصحابه أجمعين " ، وبفعل هؤلاء ضعاف الأنفس أصبحت للصحابة جميعا فضائل ومكانة روحية لدى الناس بعد أن كانت لبعضهم فضائل قليلة لا تشكل شيئاً مقابل فضائل الإمام علي وحده . بل وأصبح لبعض الصحابة مكانة روحية فاقت مكانة أهل البيت عليهم السلام !!

 

  إن معاوية الذي خطط للإطاحة بالمكانة الروحية لأهل البيت كان يمارس الرعب  ضد من يوالي أهل البيت أيضاً ، فقد كان يكتب إلى الولاة أن يضطهدوا الموالين لأهل البيت بهدف عزل أهل البيت عن الناس ، واستطاع معاوية بهذه الطريقة أن يضيق على أهل البيت حتى أصبح الموالي يخفي حبه لهم . وكان الولاة لا يتهاونون في ضرب حتى من يُشتبه به أنه يحب الإمام علي وأهل بيته !! أما من يذكر للإمام علي فضيلة فقد كان يُضرب عنقه كما حدث للصحابي حجر بن عدي وأصحابه عندما قتلهم معاوية بمنطقة عذراء في سوريا . يروي ابن كثير أن عائشة قالت لمعاوية بعد أن قتل حجر بن عدي وأصحابه : " سمعت رسول الله (ص) يقول سيُقتل بعذراء أُناس يغضب الله لهم وأهل السماء " ( تاريخ ابن كثير ج8 ص55 )  .

  وتفنن الولاة في اضطهاد شيعة أهل البيت فكانوا يحتقرونهم ويمنعون عنهم حقوقهم في بيت المال حتى عن أرامل وأيتام أولئك الذين استشهدوا في جيش الإمام علي في معركة صفين !! وكان الولاة يعتبرون كل من يوالي أهل البيت زنديقاً مُحتقراً يفضلون عليه اليهودي والنصراني !! وكان يكفي لسجن الموالي لأهل البيت والتنكيل به أقل تهمة له من أحد العامة من الناس ، حيث يُسجن دون سبب أو برهان . وقد استغل ذلك ذوي القلوب العفنة لابتزاز الأبرياء والطمع فيهم . وبسبب ذلك ظهرت طائفتان استضعفت طائفة الأخرى ، ومع مرور الوقت وبعد أن كان اضطهاد الموالين لأهل البيت سمة الحكومة الأموية أصبح الاضطهاد لهم سمة لشريحة كبيرة من الناس كنوع من النفاق السياسي للحكومة الأموية أو اقتناعا بسبب الروايات التي وُضعت والتي حطت من قدرهم . فبعد أن كان ذلك توجهاً أموياً أصبح فيما بعد توجهاً عاماً مما أدى إلى ازدياد شعور شيعة أهل البيت بالعزلة والقهر واليأس والخوف على أنفسهم . أما أهل البيت عليهم السلام فقد كان لا حول لهم ولا قوة فهم محاصرين إعلامياً وسياسياً وعسكرياً يسمعون عميد أهل البيت يُشتم أمامهم ويرون شيعتهم مضطهدين وليس باستطاعتهم عمل شيء سوى الصبر .

 

ازداد معاوية قوةً ونفوذاً مع مرور الوقت واستطاع من خلال خطته تلك أن يستقطب قاعدة عريضة من الناس خاصةً الجيل الذي لم يرى رسول الله (ص) وبالتالي اعتمد على معرفة الأمور من الروايات والأحاديث والتي من ضمنها مئات الأحاديث والروايات التي وضعها رجال معاوية . وحقق معاوية بتلك الخطة هدفين كان يحلم بواحدة منها ، حيث استطاع عزل أهل البيت وتقليل مكانتهم الروحية لدى الكثير من الناس إضافةً إلى أنه أوجد قاعدة شعبية كبيرة خارج الشام تمجده وتؤيده ، ساهموا في اضطهاد شيعة أهل البيت ، وبذلك أصبحوا حرّاس أمن ضد عودة نفوذ أهل البيت . وهكذا صمد حكم معاوية معتمدا على الكذب والظلم دون رادع بالرغم من قول رسول الله (ص) " سيكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون فمن صدقهم بكذبهم ووالهم على ظلمهم فليس مني " ( مسند أحمد بن حنبل ج4 ص267 ) .

 

  لم يكتفي معاوية بما فعله تجاه أئمة أهل البيت بل تخطى ذلك ، فقد رأى أن بعض الصحابة البارزين وإن لم يميلوا لأهل البيت فقد ينتهزون أية فرصة للثورة ضد حكمه بسبب سلوكياته وسلوك ولاته الذين كانوا يتباهون في ممتلكاتهم ومراكزهم الاجتماعية ويقيمون الحفلات حيث ترقص فيها الجواري وتتعاطى الخمور . فأدرك معاوية أنه قد يستغل هؤلاء الصحابة فرصة عدم الرقابة فيقوموا بتحريض المسلمين ضده لأن العقيدة الإسلامية تستنكر مثل تلك التصرفات وتلزم إقامة الحد على الفاسق الفاجر . لذلك لم يجد معاوية وسيلة أفضل من تغيير هذه المبادئ الإسلامية سوى أن يطلب من رجاله أن يضعوا أحاديث وروايات يطيع بموجبها المسلمون هذا الفاسق الفاجر ‍!! فمن إقامة الحد عليه إلى طاعته استطاع معاوية من خلال رجاله الذين باعوا دينهم بدنياهم من وضع أحاديث تمنع الخروج على الحاكم الفاسق الفاجر بل تدعو إلى التمسك به والانصياع لأوامره لكسب رضى الله !! والغريب في الأمر أن بعض المذاهب إسلامية إلى اليوم تعتقد بصحة ذلك مع وجود أحاديث صريحة وآيات قرآنية تناقضها وتتوعد من يفعل .

 

  أن كتاب الله يدعو إلى تطبيق الشرع وعدم تعطيل أي حد من حدوده بل يُطبق الحد بدون استثناء ، وإن الله لا يأمر بالفساد فلماذا يأمر بطاعة الفاسد ؟! قال الرسول (ص) " سيلي أموركم من بعدي رجال يُعَرِّفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون فلا طاعة لمن عصى الله " ( مسلم ج4 ص1871 ) لاحظ عبارة ( فلا طاعة لمن عصى الله ) فكيف يدعو إلى طاعة الحاكم الفاسق الفاجر ؟! وقال الرسول (ص) " يكون بعدي أئمةً لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان أنس " ( صحيح مسلم كتاب الإمارة ج2 ص35 ط الحلبي و ج6 ص20 ط محمد علي و ج12 ص238 ط مصر شرح النوري ).

 

  استطاع معاوية بمساعدة رجاله الذين اختلقوا الأحاديث من تغيير بعض مبادئ الدين الإسلامي بما يناسب بقاءه في السلطة وضمان عدم الخروج عليه . ولم يكتفي معاوية بما أحدث من تغيير بل رأى أن الإسلام بأكمله خطر عليه ، فالعقيدة الإسلامية تنمي الجهاد ضد الظلم والفساد وخشي أن يحدث ذلك في غفلة ، فعمد إلى فتح بلاد المسلمين أما الغزو الفكري للمعتقدات الأخرى تحت غطاء الاستفادة من الثقافات الأخرى لتحويل الاهتمامات الدينية عند المسلمين إلى اهتمامات ثقافية . وتوافد الكثير من علماء الروم والهنود والمجوس والزرادشت واليهود إلى بلاد المسلمين ، وانتشرت الإسرائيليات والمعتقدات الأخرى فاختلطت بالمعتقدات الإسلامية كما يتشرب الإسفنج بالماء حتى أصبح الناس لا يميّزون بينها . وأصبح الناس لديهم اهتمامات أكبر بثقافات الأديان الأخرى بسبب ما تحتوي من قصص خرافية تشد الانتباه . وبسبب ذلك ظهر بين المسلمين من هو أعلم بالإسرائيليات من العقيدة الإسلامية ! ويروي المسعودي أن جماعة من أهل الشام كانوا يتناظرون فيما بينهم حول الخلفاء الأربعة ومعاوية ولما سُئِل أحدهم عن علي بن أبي طالب قال : علي أبو فاطمة !! فقالوا له من فاطمة ؟ قال : زوجة رسول الله (ص) !! ( أنظر مروج الذهب ج3 ص39-41 ) . ويُحكى أن الصحابي أنس بن مالك حينما دخل الشام بكى ، قيل له ما يبكيك ؟ قال لا أجد ما كان على عهد حبيبي رسول الله (ص) قالوا : حتى الصلاة ؟ قال : حتى الصلاة والله !! ويُحكى أن أحد التابعين ذهب إلى الشام ودخل مسجداً فوجد شيخ يخطب فيه وكلما يتطرق لإمام علي بن أبي طالب يسبه فلما انتهى الشيخ من خطبته ذهب التابعي إليه وسأله : من علي هذا الذي تسبه ؟ فقال الشيخ : كان علي صحابي مؤمن ثم كفر وادعى النبوة فقتله سيدنا معاوية !!

 

  لقد بلغ الجهل بالحقائق الدينية ذروته بالشام بسبب انتشار المعتقدات الغير إسلامية واختلاط الحابل بالنابل وانتشار الثقافة الفكرية على حساب الثقافة الربانية ، وظهر الفكر وبرز مفكرون ، واصطدمت الآراء ، واختلق كل صاحب رأي حجته مما يعرف من فكر تلك الثقافات ، وكثرت المناظرات ، وضاع الدين ، وتاه الناس ، فمن كان عنده حيلة احتال ، ومن كانت له غاية سعى إليها ، فانتشر الخمر وفُتحت الخمارات لأول مرة علناً ، وظهر الفساد ، وارتفعت أصوت الغناء ، وحقق معاوية ما أراد . فبعد أن كان معاوية يشرب الخمر سراً أصبح يشربه في الحفلات أُسوةً بغيره من الناس !! ( انظر الإصابة لابن حجر ج4 ص162 ).

  يروي الطبري وابن الأثير أن معاوية كان يأخذ الجزية من المسيحي حتى لو أسلم وكأنه لا يريد أن يدخل الناس الإسلام بل أنه كان يضاعف الجزية على المسيحي إذا أسلم !! ( انظر تاريخ الطبري ج8 ص139 ، الكامل في التاريخ ج5 ص29 ).

 

  لقد حرص معاوية على طمس معالم الإسلام النبوي الذي كان يشكل خطرا على حكمه فبدله بإسلام أموي ، واستطاع بذلك أن يفرض سيطرته على الدولة الإسلامية ، واستقر سلطانه فأصبح سلطاناً لا يُنازع  في ملكه ، واعتبر الدولة الإسلامية ملك له وحده . ويروي الحاكم النيسابوري وابن سعد أن معاوية كان يرفض تقسيم الغنائم على المسلمين ( مستدرك الصحيحين ج3 ص442 ، طبقات ابن سعد ج7 ص18 ).

 

  بعد مرور سنين طويلة على حكم معاوية أشار عليه أحد مستشاريه أن يمهد لابنه يزيد ليكون خليفةً للمسلمين بعده ، فاستحسن معاوية الفكرة وبدأ في التمهيد لخلافة ابنه يزيد ، لكنه وجد الكثير من العراقيل أمام تحقيق رغبته . فهناك من الصحابة من هم من الكفاءة والقدرة على إحباط  محاولة نصب يزيد خليفةً للمسلمين . فكر معاوية في إغرائهم بالمال ونجح مع البعض ، لكن البعض الآخر رفض . يروي الكندي أن عبد الله بن عمر بن العاص رفض أن يبايع يزيد بن معاوية عندما حثه على ذلك عابس بن سعيد فقال له عبد الله : أنا أعْرَف به منك وقد بعت دينك بدنياك ( كتاب القضاة ص310 طبعة أوفست ) . ورفض أيضا سعيد بن عثمان بن عفان طلب معاوية في البيعة لابنه يزيد فقال سعيد : إن أبي خير من أب يزيد وأمي خير من أم يزيد وأنا خير منه ( نوادر المخطوطات - الرسالة السادسة ص165 ) . وقال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق : أنها هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل مكانه ( الفائق للزمخشري ج2 ص203 ) وكان عبد الرحمن بن أبي بكر يقول عن حكم معاوية أنها فوقية وكان غير راضٍ على حكم معاوية فبعث له معاوية مائة ألف درهم رفض عبد الرحمن أن يقبلها وقال : لا أبيع ديني بدنياي ( كتاب سلس الغانيات للألوسي ص41 ).

 

  شعر معاوية أن الاغتيال أفضل وسيلة للتخلص من المعارضين لحكم ابنه يزيد فكان يستكشف رغبات الناس في اختيار الأنسب للخلافة بعده وما أن يختاروا شخصا حتى يبعث له من يقتله بالسم ! يروي المسعودي أن معاوية سأل الناس عمن يرونه الخليفة بعده فقالوا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فقتله بالسم سراً ثم عاد السؤال عليهم بعد فترة فقالوا عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فقتله بالسم سراً !! ( مروج الذهب ج2 ص477 ).

 

  استخدم معاوية كل وسيلة دنيئة لتحقيق مآربه فكما دبّر الخطط للاستيلاء على الحكم ودبّر الخطط لاستمرار حكمه ، استخدم نفس الأساليب الدنيئة في التخلص من كل معارض لحكم ابنه يزيد حتى وافق من كان معارضا خوفاً على حياته . وبذلك تمكن معاوية من أخذ البيعة لابنه يزيد ليكون خليفة للمسلمين بعده ، وبايع الناس يزيد بن معاوية على الخلافة وهم يعرفونه سكِّيراً  يهوى الفسق والفجور والغناء والقرود . ولم يرفض بيعة يزيد إلا قلة من الصحابة على رأسهم الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله (ص) .

 

  لقد تلاعب معاوية بن أبي سفيان بمشاعر المسلمين وأساء إلى الإسلام إساءة بالغة  حتى أصبح الإسلام أعمى لا يعرف أين يجيء أو يذهب كما تنبأ عمر بن الخطاب . وذكر الطبري أن أحمد بن الحسين البيهقي قال : خرج معاوية من الكفر إلى النفاق في زمن رسول الله (ص) وبعده رجع إلى كفره الأصلي . وقال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج: طعن كثير من أصحابنا في دين معاوية وقالوا إنه كان ملحداً لا يعتقد النبوة ونقلوا عنه في فلتات كلامه ما يدل عليه. ويروي ابن الأثير عن الحسن البصري إمام أهل البصرة بعد أن مات معاوية قال : أربع خصال كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة ، إنتزاءه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورةٍ وفيهم بقايا الصحابة وذوي الفضيلة ، واستخلافه بعده ابنه يزيد سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعائه زياداً وقد قال رسول الله (ص) الولد للفراش وللعاهر الحجر ، وأخيراً قتل حجر بن عدي وأصحاب حجر بن عدي فيا ويلاً له من حجر وأصحاب حجر ( الكامل في التاريخ لابن الأثير ج3 ص487 ) .

 

 

الصفحة الرئيسية