الفرق الإسلامية

 

  لعبت السياسة والمصالح دوراً كبيراً في تقسيم المسلمين ، فقد أُستغل الدين من أجل الحكم والسيطرة أو تحقيق الجاه والثروة ، فكم إمام دعا إلى النار من أجل دنياه ، وكم إمام دعا إلى النار من أجل إثبات مذهبه فضل وأضل الآخرين ، وكم عالم أراد الجاه والتقرب من السلطان فأفتى بالحرام وأحله أو أفتى بالحلال فحرمه وباء بسخط من الله ورسوله (ص) .

 

  قال رسول الله (ص) : تنقسم أمتي بعدي إلى بضع وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة . وصدق رسول الله (ص) فقد انقسمت أمته إلى فرق بعضها تُعرف بأسم مؤسسها وبعضها تُعرف بمنهجها وهي :

مذهب الخوارج - مذهب المعتـزلة - مذهب الأشاعرة - مذهب الجبرية - مذهب الأزارقة - مذهب النجدية - مذهب الصفرية - مذهب العجاردة - مذهب الخلفية - مذهب البيهسية - مذهب الإبراهيمية - مذهب الميمونية - مذهب الواقفية - مذهب الأباضية - مذهب العطوية - مذهب الفدكية - مذهب السليطية - مذهب اللجمزية - مذهب الشعيبية - مذهب الحازمية - مذهب التعالبية - مذهب الرشيدية - مذهب الشيبانية - مذهب المكرمية - مذهب المجهولية - مذهب الحفصية - مذهب الحارثية - مذهب الليـزيدية مذهب الحشوية مذهب الأثرية مذهب الصفائية مذهب الحنابلة مذهب الحنفية مذهب المالكية مذهب الشافعية -  مذهب الظاهرية مذهب الصوفية مذهب الجهمية مذهب المعطلة مذهب المشبَّهة -   مذهب الشيعة الإمامية (الإثنى عشرية) مذهب الإسماعيلية مذهب الزيدية مذهب الزربدية مذهب الواحدية مذهب العابدية مذهب ابن جرير مذهب الأعمش مذهب الكيسانية مذهب الأوزاعي مذهب الليث بن سعد مذهب سفيان الثوري -       مذهب ابن عيينة مذهب البربهارية مذهب الثنوية -  مذهب الغلاة مذهب البـزيعية مذهب المغيرية مذهب الواصلية مذهب النظامية مذهب الحائطية مذهب ابن تيميه مذهب المـزدارية مذهب الجاحظية مذهب الخياطية مذهب الجبائية مذهب اليونسية مذهب العبيدية مذهب الغسانية مذهب الثوبانية مذهب التومنيه مذهب الوهابية ، وغيرها من المذاهب ، ومن الجدير ذكره أن بعض هذه المذاهب لا يتعدى أفرادها عن بضع أشخاص !!

 

  كانت جميع المذاهب الإسلامية تدين بالإسلام وتشهد الشهادتين باستثناء الغلاة الذين كانوا يعتقدون أن الإمام علي بن أبي طالب هو الله !! ولا زال قلة من أتباع هذا المذهب يعيش في مناطق بين تركيا وسوريا والجدير بالذكر أن بعض العلماء صنفوا هؤلاء ضمن الشيعة على اعتبار أن ولائهم كان للإمام علي !! لكن الحقيقة أن الغلاة يعبدون الإمام علي في حين أن الشيعة يتخذون الإمام علي إمامهم الأول ويعتبرونه الخليفة بعد النبي محمد (ص) .

 

  وقد حدثت صراعات بين أتباع تلك المذاهب بلغت حد القتل وتدمير المساجد وسلب الممتلكات !! وتطرقت كتب التاريخ إلى الكثير من الفتن والحروب شنها أتباع مذاهب على مذاهب أخرى من منطلق الجهاد في سبيل الله !!  ومن الطريف المحـزن أن بعض أئمة تلك المذاهب الإسلامية كان ينادي أو يفتي بأمور غريبة بعيدة عن روح الإسلام ومنطقه كأن يفتي خلاف مصلحة الإسلام والمسلمين فيحلل قتل المسلم !! وكان البعض يقلل من شأن بعض العبادات من منطلق الدين يسر وليس عسر لدرجة القول أن العبادة كانت كافية بالكلام دون الفعل أو بالقول دون النية !!

 

  إن فلسفة تكوين تلك المذاهب تعود بالدرجة الأولى لقناعة علماء تلك المذاهب بالأفكار الدخيلة على الإسلام فمثلاً ، مذهب الجبرية برز في العهد الأموي والذي أسسه الجعد بن درهم الذي أُعجب بأفكار آبان بن سمعان وكان آبان كثير التردد على عالم يهودي اسمه طالوت يسكن في الشام . وكان يُعرف عن آبان أنه مُعجب بأفكار هذا اليهودي ونتيجة ذلك أنه أصبح أحد الذين على يديه مزج المعتقدات الإسلامية باليهودية فكان يدعي أن معرفة الله هو الإيمان والجهل بمعرفته هو الكفر وأن الأعمال كلها لا علاقة لها بالدين فالله خلق الإنسان مع أعماله ولا يحاسبه عليها لأنه هو خالقها !! وكان لهذا المبدأ في مذهب الجبرية أكبر ميزة له عند حكام بني أمية لرفع مكانته وذلك لتبرير أفعال الحكام المنافية للدين كشرب الخمر والزنا مما جعل الناس يتقبلون فسق وفجور الحكام !! أما مذهب العجاردة فقد أخذ ينادي بجواز نكاح بنات الأخ وبنات الأخت وادعوا أن القرآن لم يذكر تحريمها !! وادعوا أن سورة يوسف ليست قرآن وإنما مجرد قصة لأن القرآن أطهر من أن يتكلم عن العشق !! وكذلك الأزارقة كانوا يفتون بجواز قتل النساء والأطفال المسلمين في حروبهم ضد المسلمين !! وزعم المشبه أن الله له وجه ويدين !! أما مذهب الكرامية الذي أسسه محمد بن كرام السجستاني وكان حنبلياً فقد كان يدعي أن الإيمان هو قول اللسان فقط وإن كان القلب يعتقد بالكفر . ويعتبر المؤمن من يقول باللسان فقط وإن كان غير مقتنع بما يقول !! وكان مذهب الثنوية يجوز لمن ليس له امرأة أن يعتدي على من له امرأتين ليأخذ إحداها لنفسه !! وقد اعتنق هذا المذهب الآلاف من الفاسقين ثم انقرض هذا المذهب بعد مقتل إمامهم فردك وقومه في مذبحة  .

 

   كانت أغلب تلك المذاهب الإسلامية تتشابه شكليا في العبادات كالحج والصيام والصلاة والزكاة والاختلافات كانت محدودة  لكن الاختلاف العقائدي كان جوهريا . فبعض المعتقدات لدى غالبية هذه المذاهب كانت لا صلة لها بالإسلام بل بما جاء بها علماء اليهود والنصارى والهنود والمجوس وغيرهم الذين تمكنوا من غزو الثقافة الإسلامية في عهد الدولة الأموية ، إضافة إلى تلك الأحاديث والروايات المكذوبة على رسول الله (ص) . ظل هذا الوضع حتى أمر الخلفاء العباسيون الناس باتباع المذاهب الأربعة فقط الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وأخذوا يحاربون ما تبقى من المذاهب الأخرى ويجبرون الناس على المذاهب الأربعة المعروفة اليوم . وكانت نتيجة ذلك انقرضت تلك المذاهب الإسلامية ولم يبقى إلا المذاهب الأربعة وقلة قليلة من المذاهب الأخرى إضافة إلى المذهب الشيعي الذي استمر منذ وفاة الرسول (ص) يتبع الإمام علي وأبناءه بعده في حين أن المذاهب الأربعة وأقدمها مذهب الإمام أبو حنيفة ظهرت بعد أكثر من قرن من وفاة الرسول (ص)  .

 

 

المذهب الحنفي :

 

  المذهب الحنفي نسبة إلى الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي بن ماه ، وُلد عام 80 هجرية ومات عام 150 هجرية ، جده فارسي انتقل إلى قبيلة بني تيم بن ثعلبة ، ثم نشأ أبو حنيفة طفلاً في الكوفة حتى كبُر . درس أبو حنيفة الدين الإسلامي كغيره على يد شيوخ وعلماء عصره . كان أبو حنيفة يفتي معتمداً على القياس والرأي والاستحسان في استنباط الأحكام الشرعية حتى أنه في بعض الأحكام كان يخالف الأحاديث بسبب استحسانه للحكم الشرعي الذي يفتي به ، وذات مرة أفتى أن القرعة حرام فقيل له إن النبي (ص) عمل بالقرعة بين نسائه في الغزوات فلم يغير فتواه ! وأفتى بأن للفرس سهم وللرجل سهم فقيل له إن النبي (ص) قال : للفرس سهمان وللرجل سهم فقال أبو حنيفة : أنا لا أجعل للبهيمة أكثر من سهم المؤمن . وقد خالف أبو حنيفة في كثير من فتاواه النصوص علماً بأن القاعدة الفقهية تدعوا إلى عدم الاجتهاد مقابل النص مما أدى ذلك إلى سخط علماء عصره عليه . وذات مرة دخل أبو حنيفة على الإمام جعفر الصادق إمام أهل البيت في المدينة المنورة فقال له الإمام جعفر الصادق يا أبا حنيفة لا تقيس فإن إبليس أول من أخذ بالقياس قال خلقتني من نار وخلقته من طين فلم يسجد لآدم فلعنه الله وطرده من رحمته ، فلا قياس في دين الله .

  تعرض أبو حنيفة للكثير من النقد والسخرية من علماء عصره مثل سفيان الثوري وسفيان بن عيينة والأوزاعي والإمام مالك ( صاحب المذهب المالكي ) وآخرون بسبب فتاواه وآراءه وطريقة القياس التي يقيس بها حتى أن عدد من العلماء اتهموه بأنه يهدم الدين الإسلامي وإنه إمام مضل . يروي الخطيب البغدادي عن إبراهيم بن بشار عن سفيان بن عيينة أنه قال : ما رأيت أحداً أجرأ على الله من أبي حنيفة ( تاريخ بغداد ج3 ص374 ) ، ويروي البغدادي  إنه قيل لأبي حنيفة ما تقول في رجل قتل أباه ونكح أمه وشرب الخمر في رأسه أبيه فقال مؤمن  فقيل له لا قبلت لك شهادةً أبداً !! ( تاريخ بغداد ج13 ص374 ) . وعن الوليد بن مسلم قال : قال لي مالك بن أنس ( الإمام مالك ) أيُذكر أبو حنيفة في بلادكم . قلت نعم ، قال : لا ينبغي لبلادكم أن تُسكن . ( ميزان الشعرات ج1 ص59 ). وقال الأوزاعي : إننا لا ننقم على أبي حنيفة أنه رأى ، كلنا نرى ، ولكنا ننقم عليه أنه يجيئه الحديث عن النبي (ص) فيخالفه إلى غيره . ( تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص63 ) . وقال نعيم الفزاري كنت عند سفيان بن عيينة فجاء نعي أبا حنيفة فقال : كان يهدم الإسلام عروةً عروة وما وُلد في الإسلام مولود أشر منه ( الانتقاء لابن عبد البر ص150 ) . وبالمقابل قام أصحاب أبا حنيفة بتعظيمه فقالوا أن النبي (ص) قال : يكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي !! ( لسان الميـزان ج5 ص119 ) وقالوا أيضاً أن النبي (ص) غبط داود (ع) لأن في أمته لقمان الحكيم فجاءه جبرائيل (ع) فبشره بأبي حنيفة النعمان !! وقالوا أيضاً أن الخضر (ع) درس عند أبي حنيفة خمس سنوات ثم عندما مات أبو حنيفة طلب من الله أن يزوره في قبره لكي يأخذ من علم أبي حنيفة !! وقال قاضي زاده في جامع الرموز: أعلم أن المذاهب لا يقلده من الصحابة والتابعين إلا أبا حنيفة وإن عيسى (ع) لما ينـزل يحكم بمذهب أبا حنيفة !! ( جامع الرموز ج1 ص2 ).

 

   كان أبو حنيفة محباً لأهل البيت فكان يرى أن الخلافة في أولاد علي وفاطمة وأن الخلفاء الذين عاصروه من الأمويين اغتصبوا الخلافة منهم ( انظر كتاب أبو حنيفة ص165 ) . وقال أبو حنيفة أن معركة الجمل كان الحق مع الإمام علي بن أبي طالب   ( انظر مناقب المكي ج2 ص24 ). درس أبو حنيفة في أواخر حياته عند الإمام جعفر الصادق سنتين قيل أنه أعترف بالأخطاء التي كان يرتكبها طوال السنين التي كان يفتي فيها ويخالف النصوص فقال مقولته الشهيرة ( لولا السنتان لهلك النعمان ) لكن الوقت كان متأخراً فقد ترك فتاوى كثيرة حيث كان يقيم الحلقات الدراسية في مساجد الكوفة ويعلم تلامذته القياس والرأي وترك خلفه فتاوى لا تعد ولا تحصى ، وقد أعتمد عليها تلامذته فيما بعد عندما أسسوا المذهب الحنفي بعد موته . فعندما أصبحوا تلامذته قضاة في الدولة العباسية نتيجة تقريب الخلفاء العباسيون لهم أمثال القاضي أبو يوسف والشيباني واللؤلؤي وزفر جمعوا كل ما قاله أبو حنيفة فأسسوا المذهب الحنفي .

 

  تعرض أبو حنيفة للأذى الكثير خلال فترة حياته سواء من حكام الدولة الأموية ومن الخليفة المنصور العباسي ، فكان مكروهاً عند أهل الشام وحكام بني العباس وحتى في المدينة عند أتباع الإمام مالك ، وقال أبو حنيفة يوماً لأصحابه : أتدرون لما يبغضنا أهل الشام قالوا : لا ، قال : لأنا لو شهدنا عسكر علي ومعاوية لكنا مع علي . وقال : أتدرون لما يبغضنا أهل الحديث ( يقصد الإمام مالك وأتباعه ) ، قالوا : لا ، قال : لأنا نحب أهل بيت رسول الله ونقر بفضائلهم . وقال أبو حنيفة ذات مرة إن خروج زيد بن علي بن الحسين سبط رسول الله (ص) ضد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك ضاهه خروج رسول الله (ص) يوم بدر ( مناقب أبو حنيفة للبزازي ج1 ص55 ) . ويُقال إنه بسبب تقربه لأهل البيت تعرض لغضب الخلفاء العباسيين فقتلوه بالسم نظراً لكراهية الخلفاء العباسيين لأهل البيت .

 

  مات أبو حنيفة دون أن يكون له مذهب يُعرف به وكان أتباعه يقتصرون على بعض الكوفيين ، لكن بعد أن أسس تلامذته المذهب الحنفي وبسبب فتواه الذي أجاز الخلافة لغير قريش استحسن الأتراك مذهبه خلال حكم الدولة العثمانية واعتبروا المذهب الحنفي مذهب الدولة وأخذوا يضربون الناس لاعتناق مذهبه حتى أصبح أكبر مذهب إسلامي له أتباع بين المسلمين بسبب طول فترة حكم الدولة العثمانية الذي امتد حوالي سبعة قرون من الـزمن .

 

 

المذهب المالكي :

 

  المذهب المالكي نسبةً إلى الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمر بن الحارث من قبيلة حمير بن سبأ باليمن ، وقيل إنه من موالي بني تيم وليس بعربي أصيل كما قال أستاذه ابن شهاب الزهري عندما روى عن عمه نافع بن مالك أنه كان من الموالي . وكان جد الإمام مالك وأسمه مالك قد نـزل بالمدينة فأصبح من التابعين وسمى ابنه أنس تشبيهاً بالصحابي أنس بن مالك . اختلف المؤرخون في ولادة الإمام مالك بن أنس بن مالك ، فمنهم قال عام 93 هجرية وقيل 94 هجرية وقيل 95 هجرية وقيل 96 هجرية في المدينة المنورة . وقد يرجع أسباب الاختلاف إلى اعتقاد البعض أن أم مالك حملته في بطنها ثلاثة سنين !! قال ابن عبد البر : وقد ذكر غير الواقدي أن أُم مالك حملت به ثلاث سنين (مناقب مالك للسيوطي ص 6 ) . لم يكن أنس والد الإمام مالك معروفاً حيث لم يُذكر شيئاً عن حياته في كتب التاريخ  ، ولم يكن مالك من أسرة علمية ، وإنما تعلم الإمام الفقه على يد شيوخه أمثال سعيد بن المسيب وعبدالعزيز العمري ومحمد بن مسلم الزهري وربيعة الرأي .

  اصبح مالك فقيها وأخذ يفتي وتعرض لكثير من السخرية لمخالفته من هم أعلم منه . قال سعيد بن أيوب : لو أن الليث ومالك اجتمعا لكان مالك عند الليث أبكم ، ولباع الليث مالكاً فيمن يريد ! ( الرحمة الغيثية لابن حجر ص6 ). وقال يحيى بن معين : سفيان أحب إليَّ من مالك في كل شيء ( تاريخ بغداد ج10 ص164 ). وقال سلمى بن سليمان لابن مبارك : وضعت شيئاً في رأي أبي حنيفة ولم تضع شيئاً في رأي مالك ؟ فقال سلمى : لم أره عالماً ( انظر جامع فضائل العلم ج2 ص157 ). وقال يحي بن صالح بن صالح : محمد بن الحسن فيما يأخذ لنفسه أفقه من مالك  ( تاريخ بغداد ج2 ص175 ) وقال الإمام أحمد بن حنبل : ابن أبي ذويب كان أفضل من مالك ( تذكرة الحفاظ ج1 ص176 ) . بالمقابل فقد قال أتباع مالك كلاماً كثيراً فيه بلغ حد المبالغة حيث قالوا أنه مكتوب على فخذ مالك أن مالك حجة الله ! وقالوا أنه لا يدخل الخلاء إلا مرة كل ثلاثة أيام لأنه يستحي ! وقالوا أنهم رأوا في المنام أخبار عن أمواتهم أنهم لما ماتوا وجاء الملكين إليهم لمحاسبتهم ظهر مالك لهما وصرفهما عن الموتى !! ( انظر مشارق الأنوار للعدوي ص288 ) . وذكر البعض أنهم رأوا في المنام النبي (ص) فقالوا له أن مالك والليث يختلفان فمن هو الأعلم ؟ فقال النبي (ص) مالك وارث جدي إبراهيم !! ( مناقب مالك للزاوي ص18 ). وقيل أنهم سئلوا النبي (ص) من بعدك فقال مالك !! ولما كان مالك قد تعلم أيضاً عند الإمام جعفر الصادق روى الشيخ عيسى بن مسعود الزاوي أن الإمام جعفر الصادق نصَّب الإمام مالك إماماً بعده عندما مرض !!   ( مناقب مالك للزاوي ص10 ) .

 

  لم يكن الإمام مالك معروفاً في العهد الأموي الذي عاش فيه ما يقارب الأربعين عاماً لكنه عُرف أثناء خلافة المنصور الخليفة العباسي حينما اشتد الخلاف بين أهل الرأي في الكوفة ( مذهب أبو حنيفة ) وبين أهل الحديث مذهب أهل الحجاز ( أساتذة مالك ) . وقد تعرض مالك إلى الضرب بالسياط من الخليفة العباسي عندما رفض حديث ابن عباس في جواز نكاح المتعة حيث حرَّمه مالك فضربه الخليفة بالسياط ( انظر شذرات الذهب ج1 ص290 ). وعندما مات أبو حنيفة أخذ مالك يفتي بما يستحسنه الخليفة المنصور ، وقال مالك يوما للخليفة المنصور لو لم تكن أهلاً للخلافة لما ولاك الله  ! فقرّبه المنصور إليه ثم أصبح مالك بعد ذلك يعد من رجالات الخليفة حتى أصبح الولاة يخشونه بعدما أصبح أمْر عزلهم على يد مالك سهلاً .

 

  استمر تعظيم مالك في أواخر حكم الخليفة المنصور ، وفي عهد الخليفة المهدي والرشيد أصبح لمالك سلطة تنفيذية يستطيع ضرب وسجن من يشاء ( انظر مناقب مالك للزاوي ص30 ) . وكان مالك قد أفتى بجواز ضرب المتهم فلقي أثر تلك الفتوى الاستحسان لدى الخلفاء العباسيين ، وعُرف ذلك فيما بعد بالمصالح المرسلة في الفقه المالكي . وكان مالك يعمل جولات تفقدية في السجون ويصدر الأوامر بالضرب والقطع والصلب ( انظر كتاب مالك بن أنس لأمين الخولي ص139 ).

 

  زعم بعض المؤرخون أن مالك كان إمام مدينة رسول الله (ص) لكن الحقيقة أن مالك لم يكن كذلك ، حيث لم يكن أعلم الناس في زمانه بدليل آراء بعض العلماء التي ذكرناها فيه ، فقد كانت المدينة تحوي علماء أعترف مالك نفسه أنهم أعلم الناس مثل الإمام جعفر الصادق . واعترافه بنفسه خير دليل حينما قال : إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين ( جامع بيان العلم ج2 ص33 ) فهو يؤكد أن فقهه مبني على الظن ، ولم يستطع مالك إجابة الكثير من المسائل الشرعية التي كان يُسأل عنها . قال أبو مصعب : قال لنا المغيرة : تعالوا نجمع كل ما نريد أن نسأل عنه مالكاً فمكثنا نجمع ذلك ووجه به المغيرة إليه وسأله الجواب فأجاب مالك في بعضه وكتب في الكثير منه لا أدري ( الموافقات ج4 ص288 ) . وقيل أنه جاء رجل إلى مالك فسأله كيف يستوي الله على العرش ؟ فقال مالك لأصحابه أخرجوه فإنه مبتدع فأخرجه أصحابه !!

  لم يكن مالك في حقيقة الأمر صاحب مذهب ، وإنما كان رجل يفتي ثم تحول في أواخر حياته إلى رجل تنفيذي في الدولة العباسية وبالمفهوم الحديث يمكن القول أنه كان وزيراً للعدل والشئون الدينية ، لكن تلامذته هم الذين أسسوا المذهب المالكي بعد وفاته كما حدث في المذهب الحنفي . وقبيل وفاته كان مالك كثير الندم وكان يبكي لأنه كان يفتي برأيه . يقول العقبي : دخلت على مالك في مرضه الذي مات فيه فسلمت عليه فرأيته يبكي فقلت  يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك ؟ فقال لي : يابن قعنب ومالي لا أبكي ومن أحق بالبكاء مني والله لوددت إني ضُربت بكل مسألة سوطاً وقد كانت لي السعة فيما سبقت إليه وليتني لم أفتي بالرأي ( ابن خلكان ج3 ص246 ).

  بعد موت مالك أسس تلامذته مذهبه وأصبح لمالك مذهب دون أن يدري أنه سيخلد كصاحب مذهب ، ففي الوقت الذي مات فيه مالك نادماً على الفتاوى التي أفتاها جُمعت تلك الفتاوى وفق مذهب سُمي باسمه على يد تلامذته أمثال عبد الله بن وهب بن مسلم الذي نشر المذهب المالكي في مصر والمغرب وكذلك عبد الرحمن بن القاسم وأشهب بن عبد العزيز وعبد الله بن الحكم بن الليث ويحي بن يحي بن كثير الليثي الذي انتهت إليه الرئاسة في الأندلس فنشر المذهب المالكي لمكانته عند السلطان وكان له دور كبير في هذا الصدد . يقول ابن حزم في نفح الطيب ج6 ص20 مذهبان انتشرا بالرياسة والسلطان مذهب أبا حنيفة عندما ولي أبو يوسف القضاء وهو حنفي ، ومذهب مالك عندما ولي الرياسة يحي بن يحي بن كثير وهو مالكي . وكما أجرى تلامذة أبو حنيفة تعديلات على مذهبه ، فعل كذلك تلامذة مالك تعديلات على مذهبه أمثال أسد بن الفرات وعبد الملك بن حبيب ومحم بن إبراهيم بن زياد الإسكندري ( انظر مقدمة ابن خلدون ص377 ).

 

 

 

المذهب الشافعي :

 

  الشافعي هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع ، ولد عام 150 للهجرة ، قيل أنه ولد في اليمن وقيل بعسقلان وقيل بغزة . ووفاته كان عام 204 هجرية في مصر حيث دُفن بمقبرة بني زهرة . كان أبوه كثير التنقل بين اليمن وغزة وعسقلان للرزق وعُرف أباه عن طريق ابنه حيث لم يكن معروفاً إلا بعد أن أصبح ابنه إماماً للشافعية وقيل أن الشافعي وُلد بعد وفاة أبيه بأشهر قليلة .

  بدأ الشافعي دراسته في السن العاشرة حيث تعلم  القرآن الكريم ثم الشعر والأدب  وعندما بلغ العقد الثالث من عمره توجه لتعلم الفقه ودرس على يد أساتذة من أهل الحجاز ثم أكمل أخيراً عند أستاذه مسلم بن خالد الـزنجي مفتي مكة المكرمة آنذاك ثم أنتقل إلى المدينة ليتعلم عند مالك .

 

  استقر الشافعي بعد تلقيه العلوم الدينية في مصر وأخذ ينشر فقهه وكان يصطدم في أمور كثيرة بفقه الإمام مالك ، يروي ابن عبد البر في كتابه جامع العلم أن الشافعي قال : قدمت إلى مصر ولم أكن أعرف مالك يخالف من أحاديثه إلا ستة عشر حديثاً فنظرته وإذا به يقول بالأصل ويدع الفرع ويقول بالفرع ويدع الأصل !!

  ألف الشافعي كتاباً يرد به على الإمام مالك وفقهه فغضب منه المصريون بسبب الكتاب وأخذوا يحاربون الشافعي . يقول الكندي : لما دخل الشافعي مصر كان ابن المنكدر يصيح خلفه : دخلت هذه البلدة وأمرنا واحد ففرقت بيننا وألقيت بيننا الشر فرق الله بين روحك وجسمك ( القضاة للكندي ص428 ) . وقيل أنهم ضربوا الشافعي حتى قتلوه حيث دُفن هناك ومن ثم قام تلامذته بنشر فقهه أمثال خالد اليماني الكلبي والحسن بن محمد الزعفراني البغدادي وأحمد بن محمد الأشعري البصري والحسن بن علي الكرابيسي ويوسف بن يعقوب البويطي وإسماعيل بن يحي المـزني والربيع بن سليمان المرادي ومحمد بن عبد الله بن الحكم الذي قال الشافعي فيه وددت أن يكون لي ولد مثله . جمع تلامذة الشافعي كل أقواله وفتاواه وكتبه وأضافوا إليه آرائهم وأوجدوا المذهب الشافعي . قال أبو ثور : الشافعي ما كان يعرف الحديث وإنما كنا نوقفه عليه ونكتبه ( البداية والنهاية ج9 ص327 ) . وقد جمع تلامذة الشافعي آراءه وآرائهم في كتاب واحد أسموه كتاب الأم يعد أهم كتب الشافعية ( انظر ضحى الإسلام ج2 ص231 ).

 

  كان الشافعي على عكس مالك شديد الحب لأهل البيت ، ويعتبر معاوية وأصحابه فئة باغية وبسبب حبه لأهل البيت أُتُهم بأنه شيعي فرَّد الشافعي عليهم :

      إذا كان حب آل محمد رفض        فليشهد الثقلان إني رافضي

وقال :

     أنا الشيعي في ديني وأصلي          بمـكة ثم داري عسقليـة

     بأطيب مولد وأعـز فخـراً          وأحسن مذهب سموا البرية

وقال :

آل الـنبـي ذريـعـتـي          وهـموا إلـيه وسـيلـتي

أرجـو بأن أُعـطى غداً           بـيدي الـيـمين صحيفتي

وقال :

       إن كان حب الوصي رفضاً         فإنـني أرفـض الـعبـاد

يقصد بذلك أن الإمام علي بن أبي طالب هو وصي رسول الله (ص) لذلك قال شاعر يهجو الشافعي  :

       يموت الشافعي وليس يدري         عـلِّيٌ ربـه أم ربـه الله ‍‍!!

 

  دخل الشافعي يوما مجلس فيه أحفاد الإمام علي بن أبي طالب ولم يتكلم فقيل له ذلك فقال : لا أتكلم في مجلس أجدهم أحق بالكلام ولهم الرياسة والفضل  ( انظر فهرست ابن نديم ص295 ) . لقد كان للشافعي ميول لأهل البيت عليهم السلام ونظرا لميوله تلك لم ينتشر مذهبه بالصورة التي انتشر بها المذهبين الحنفي والمالكي إلا في ظل الدولة الأيوبية  .

 

 

المذهب الحنبلي :

 

  المذهب الحنبلي نسبةً إلى الإمام أحمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس ، وُلد عام 164 هجرية ببغداد وقيل بمرو ، ونشأ يتيماً مع أمه في بغداد أثناء خلافة المهدي العباسي . بدأ بتعلم القرآن الكريم والحديث وعندما بلغ الخامسة عشر طلب العلم وتتلمذ على يد الكثيرين ، فدرس في بداية عهده عند  أبو يوسف القاضي تلميذ أبو حنيفة وكذلك درس عند هشيم بن بشير ، وتتلمذ على يد الإمام الشافعي وارتبط معه بمودة فيما بعد قبل أن يتوجه إلى علم الحديث ليصبح حافظا للحديث ومن علماءه . كان احمد بن حنبل كثير الرواية عن فضائل الإمام علي وأهل بيته ، قال في فضائلهم : في روايات أهل البيت أسانيد عن أبي عن أبيه عن جده عن الرسول عن جبرائيل عن الباري لو عُرض على المجنون لشفى .

 

  ظهر نجم أحمد بن حنبل في عهد الخليفة العباسي المتوكل بسبب ملاحقة المتوكل للمعتـزلة وعلمائهم وكان يقتلهم ، فتجمع الناس حول أحمد بن حنبل لدرء الشبهة عنهم وأخذوا عنه فأصبح له أتباع كثيرين مما دفع الخليفة المتوكل أن يضع الإمام احمد في اعتباره ، ثم أخذ يقرِّب أحمد بن حنبل إليه مستغلا العداوة التي كانت بين الحنابلة  والمعتـزلة ، حيث كان أحمد بن حنبل وأصحابه يعانون الكثير من الأذى بسبب علماء المعتـزلة عندما كانوا مقربين من السلطة في فترة سابقة تسببوا في سجنه وأصحابه ، لذلك وجد أبن حنبل وأصحابه الفرصة للانتقام من المعتزلة فأخذوا يشتمون المعتـزلة ويعتبرون دماءهم وأموالهم حلال للمسلمين ولا دية ولا كفارة على قاتلهم بل لقتالهم عند الله القربة والزلفى ( الفرق بين الفِرَق ص151 ) .

  مات أحمد بن حنبل فشيَّع الحنابلة جثمانه إلى المقبرة ولـزم بعضهم القبر وباتوا عنده وصارت النساء يأتين إليه ( كتاب المعتـزلة ص185 ) . وعندما مات شيخ الحنابلة أبو جعفر عبد الخالق بن عيسى قام الحنابلة بدفنه في قبر الإمام أحمد بن حنبل نفسه (انظر شذرات الذهب لابن عماد الحنبلي ج3 ص337).

 

  طعن الكثير من العلماء في فقه الإمام أحمد ورفضوا أن يعدوه فقيهاً فقد قال الطبري عنه أنه رجل حديث لا رجل فقه ، وكذلك ابن قتيبة لم يذكره من الفقهاء في المعارف وكذلك فعل ابن عبد البر في الانتقاء ، مما دفع أتباعه لخلق روايات وقصص للرد على من طعن فيه ، قال علي بن إسماعيل: رأيت (في المنام) أن القيامة قد قامت ولا يجوز أحد على الصراط إلا بخاتم أحمد بن حنبل ( المناقب لابن الجوزي ص446 ) . وقال يحي الحماني : رأيت في المنام كأن في صفة لي إذا جاء النبي (ص) فأخذ بعضادتي الباب ثم أذن وأقام وقال : نجا الناجون وهلك الهالكون . فقلت : من الناجون ؟ قال : أحمد بن حنبل وأصحابه ( المناقب لابن الجوزوي ص504 ) . وقال أتباعه أن الله تعالى يزور قبره مرة كل عام !! ( انظر مناقب أحمد بن حنبل لابن الجوزي ص454 ) .

 

  تأسس المذهب الحنبلي على غرار ما تم للمذاهب الثلاثة الأخرى الحنفية والمالكية والشافعية ، فقد أسس تلامذة الإمام أحمد مذهبه أمثال أحمد بن محمد الحجاج المروزي ، وكذلك إبراهيم بن إسحاق الحربي الذي ألف كتاب غريب الحديث وغيره وأيضا عبد الله بن أحمد بن حنبل الذي تمم مسنده الذي يُعرف الآن بمسند أحمد بن حنبل أشهر كتب الحنابلة . كان أبن حنبل كثير النصح لتلامذته بعدم الأخذ بفقه الشافعي والمالكي والحنفي ، فكان يقول : اتبع الأصل ولا تأخذ من الرجل وأنت رجل مثله . وكان يكره كتابة فتواه فقال يوماً لرجل :  لا تكتب رأيي لعلِّي أقول الساعة مسألة ثم أرجع غداً عنها ( الطبقات لابن أبي يعلي ص39 ). ووجد تلامذته صعوبات كثيرة عند كتابة الفقه الحنبلي ، حيث وجدوا إجاباته على الكثير من المسائل غير قطعية مثل لا يعجبني أو لا أستحسن  أو أكره ، مما دفع تلامذته إلى اعتبار كل ما كرهه أحمد بن حنبل أولم يعجبه أولم يستحسنه اعتبروا ذلك حراماً ‍‍!! ووجدوا أنه كان كثيراً يرد بأنه لا يدري على المسائل التي لا يعرفها فلا يبحث فيها . وذات مرة سُئل الإمام احمد عن امرأة لا ماء لديها للوضوء وتخشى الخروج لجلب الماء فهل تتيمم ؟ قال : لا أدري !!

 

  أنتشر المذهب الحنبلي في سنة 769 هجرية بواسطة موفق الدين عبد بن محمد عندما تولى القضاء في مصر فقرَّب فقهاء الحنابلة الذين كانوا قبل ذلك قلِّة مبعثرة . ومن أهم كتب المذهب الحنبلي مسند أحمد بن حنبل الذي أتمه أبنه عبد الله ، وكذلك كتاب المستوعب الذي ألفه محمد بن عبد الله السامري ، وكتاب مختصر الخرقي ألفه عبد الله بن أبي بكر الخرقي ، وكتاب الكافي للشيخ موفق الدين المقدسي ، وكتاب المغني والمقنع وكتاب المحرر لابن تيميه .

 

 

  إن المذاهب الأربعة الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي قامت وانتشرت في واقع الأمر بفضل السلطة المؤيدة لكل مذهب ، وبعد اجتهادات مجموعات في كل مذهب وليس إمام المذهب وحده ، وبعبارة أخرى إن كل مذهب من المذاهب الأربعة هو حصيلة جهد مدرسة فقهية وليس فقيهاً واحداً ، فالمذهب الحنفي حصيلة اجتهادات أبي حنيفة وتلامذته والمذهب المالكي حصيلة اجتهادات مالك وتلامذته والفقه الشافعي كذلك والحنبلي كذلك وساهمت الظروف وأهمها السلطة في انتشار هذه المدارس الفقهية الأربعة ، ولولا الفرص التي سنحت للتلامذة لما كان لهذه المذاهب أثر الآن ، ولكان شأنها كالمذاهب التي انقرضت خاصة في ظل العداءات والفتن والتناحر التي حدثت فيما بينها

 

  لم يكن واقع العلاقة بين المذاهب الأربعة في القرون الأولى كما هو عليه الآن من اندماج ، فقد شهدت فترة ظهورها وحتى قيام الدولة العثمانية سلسة من العداءات والبغض بين أتباع المذاهب الأربعة . ومع أن أئمة المذاهب الأربعة قد سخروا من بعضهم ، إلا أنه لم تحدث صراعات بينهم ، لكن علماء المذاهب الأربعة أصدروا فيما بعد فتاوى بلغت اتهام بعضهم البعض الخروج عن الدين أو الضلال مما تسببوا في حدوث أزمات وعداءات بين أتباع المذاهب الأربعة بلغت حد الاقتتال فيما بينهم وهدم بيوت والتكفير واللعن !!

 

يروي ابن رجب عن فتنة حدثت بين الشافعية والحنابلة سُميَّت فتنة القشيري عام 469 هجرية أُغلقت الأسواق بسببها وقُتل جمع فيها وهُدمت دور ( ذيل طبقات الحنابلة ج1 ص22 ) . واعتبر الشيخ أبو حاتم الحنبلي أن من لم يكن حنبلياً ليس بمسلم !! ( تذكرة الحفاظ ج3 ص357 ) . أما الشيخ أبو بكر المقري الواعظ في جامع بغداد فقد كفَّر جميع الحنابلة !! ( شذرات الذهب ج3 ص252 ). وقالت الحنفية للشافعية : ما جسر إمامكم أن يخرج إلى الوجود حتى مات إمامنا وردت الشافعية للحنفية بل إمامكم ما ثبت لظهور إمامنا !! ( انظر الغيث المسجم في شرح لامية العجم ج1 ص165 ). وقال المظفر الطوسي الشافعي : لو كان لي من الأمر شيء لأخذت على الحنابلة الجزية !! ( مرآة الزمان ج8 ص44 ). قال محمد بن موسى الحنفي لو كان من الأمر شيء لأخذت على الشافعية الجزية ( تاريخ دول الإسلام للذهبي ج2 ص34 ). وفي مصر كان محمد بن الليث قاضياً لمصر انتهـز محنة خلق القرآن الكريم بين المذاهب فأوقع بين أتباع المالكية والشافعية ومنع فقهائهم الجلوس في المسجد !! ( القضاة للكندي ص371 ) . ويروي ابن الأثير أن الحنابلة قويت شوكتهم في بغداد عام 323 هجرية فأخذوا يقتحمون البيوت إن وجدوا نبيذاً أتلفوه وأخذوا يضربون الشافعي إذا مر بهم حتى يموت !! ( الكامل لابن الأثير ج8 ص117 ) . وكان أبو مظفر السمعاني حنفياً ثم أصبح شافعياً عام 468 هجرية فقامت الاضطرابات بين المذهبين تدخل على إثرها السلطان ونفى أبو مظفر السمعاني إلى مرو ( طبقات الشافعية ج4 ص23-25 ) . ذكر ابن رجب أن الحنابلة زعموا أن الشافعية كفار والشافعية زعموا أن الحنابلة كفار !! ( ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب ح1 ص22 ). وامتد الصراع لسنين طويلة بل قرون من الزمان حتى ذهب البعض إلى تكفير ابن تيميه وأحلوا ماله ودمه بل أنهم كفَّروا من يقول بأن ابن تيميه شيخ الإسلام !! ( ذيل تذكرة الحفاظ ص320 ) . يقول اليافعي في مرآة الجنان : قالوا في مذهب ابن تيميه أنه من كان على دين ابن تيميه حُل ماله ودمه !! ( مرآة الجنان ج2 ص242 ) .

 

  هناك الكثير من الصراعات التي حدثت بين أتباع المذاهب الأربعة في كتب التاريخ ، ولعل قصيدة الزمخشري في الكشاف توضح كيف كان البغض والسخرية متبادل بين أتباع المذاهب الأربعة ، فيقول الزمخشري في الكشاف ج2 ص498  :

 

إذا سـألوا عن مذهبي لم أبح بـه  وأكتـمه كـتمانه لـي أسـلـمُ

فإن حنـفياً قـلت قـالـوا بأنني   أبيح الطلى وهو الشراب المحرمُ

وإن شـافعياً قـلت قـالوا بأنني   أبيح نكاح البنت والبنت تحـرمُ

وإن مالـكياً قـلت قـالوا بأنني    أبيح لهم أكل الكلاب وهم هـمُ

وإن قلت من أهل الحديث وحزبه   يقولون تيس ليس يدري ويفهمُ

 

  استمرت العداءات بين أتباع المذاهب الأربعة حتى قيام الدولة العثمانية ونتيجة لفتوى أبي حنيفة بجواز الخلافة لغير القرشي أو العربي فقد وجد الأتراك مذهب أبا حنيفة الأنسب لهم لكونهم ليسوا عربا ، فعملوا على فرض المذهب الحنفي على المسلمين ، وأخذوا يضربون من لا يعتنق مذهب أبا حنيفة مما دفع أتباع المذاهب الثلاثة الأخرى بالتآلف فيما بينها والسكوت عن إظهار العداء لإتباع المذهب الحنفي فاختفت العداوة فيما بينها نتيجة إخفاء انتمائهم للمذاهب الثلاثة الأخرى خوفا من العثمانيين .

 

 

مذهب الشيعة  ( الإمامية الأثنى عشرية )

 

  ظل المذهب الشيعي منذ وفاة الرسول (ص) يسير موازياً للأحداث التي أدت إلى ظهور المذاهب الإسلامية الأخرى ومراقباً لتلك الأحداث دون أن يتأثر بها . ويعود السبب إلى  الارتباط الوثيق للشيعة باثني عشر من أئمة أهل البيت عليهم السلام ، أولهم الإمام علي ثم الإمام الحسن بن علي ثم الإمام الحسين بن علي ثم الإمام علي بن الحسين ثم الإمام محمد بن علي ثم الإمام جعفر بن محمد ثم الإمام موسى بن جعفر ثم الإمام علي بن موسى ثم الإمام محمد بن علي ثم الإمام علي بن محمد ثم الإمام حسن بن علي ثم الإمام المهدي المنتظر أبن الإمام الحسن بن علي عليهم السلام . ويقدر عدد الشيعة حوالي خُمس تعداد المسلمين منتشرين في بقاع العالم بشكل عام ، وفي منطقة الخليج والجزيرة العربية بشكل خاص . ولكون منهج أئمة أهل البيت لم يختلف طوال فترات التاريخ ، ظل مذهب الشيعة الأثنى عشرية بعيدا عن الانقسام والاختلاف .

  إن المذاهب الأربعة التي تطرقنا إليها لا تختلف في كثير من الأمور مع المذهب الشيعي ، بل تتفق في المبادئ الرئيسية . وهناك مسائل شرعية كثيرة تتفق عليها جميعا ، وأخرى اختلفت المذاهب الأربعة فيما بينها ، بينما أتفق مذهب أو أكثر من المذاهب الأربعة مع المذهب الشيعي فيها . فالاختلافات الفقهية بين المذاهب الأربعة والمذهب الشيعي تنحصر في نطاق ضيق لكنها ذات حساسية كبيرة !!

  إن الاختلافات الفقهية بين الفرقتين السنة والشيعة هي بسبب اختلاف المنهج الفقهي ، فالمنهج الفقهي لدى السنة منهج متنوع المصادر ، والمنهج الفقهي عند الشيعة محدود المصادر. فالسنة يعتمدون في منهجهم على الرأي والقياس والاستحسان وسنن الصحابة ( أقولهم وأفعالهم ) إضافة إلى النصوص القرآنية والنبوية ، أما الشيعة فيعتمدون فقط على النصوص القرآنية والنبوية وأقوال أئمة أهل البيت في منهجهم الفقهي . 

 

 

  لقد قال تعالى " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى " أي  أن الذي يبتعد عن منهج الله فإنه سيلاقي العذاب ويبعث يوم القيامة أعمى . إن هذا التصريح الرباني مهم وواضح بأن الله لا يقبل منهج يعبد به خلاف المنهج الذي أمر به ، أي أن العبادات والمعاملات يجب أن تكون بالكيفية التي أرادها الله سبحانه وتعالى لا بالكيفية التي أرادها البشر . ولطالما هناك منهج رباني محدد ، فمن المستبعد أن تكون كل المذاهب الإسلامية تسير وفق ذلك المنهج الذي أراده الله ، لوجود الاختلافات الفقهية الكثيرة بين هذه المذاهب . لذلك ومن هذا المنطلق ذكر رسول الله (ص) إن إحدى الفرق هي الناجية يوم القيامة لكونها الوحيدة التي تسير وفق منهج الله ولم تنحرف . فمن عساها أن تكون تلك الفرقة الناجية ؟

 

الصفحة الرئيسية