رابعا - الاختلاف في أولي الأمر

 

  اختلفت السنّة والشيعة في مفهوم أولي الأمر بناءًا للآية الكريمة " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " ( 59 النساء ). فقد قال علماء السنّة أن أولي الأمر هم الحكام ، وبوجوب طاعة الحاكم بَراً كان أو فاسقاً . واُعتبروا الخروج على الحاكم خروج عن الدين ، واستندوا إلى مجموعة من الروايات لتدعم رأيهم . أما الشيعة فقد قالوا بأن لفظ أولي الأمر في الآية الكريمة يعود إلى الأئمة وأنه لا طاعة للحاكم الفاسق . فالطاعة هي فقط للأئمة أو من ينوب عنهم من الفقهاء العدول المشهود لهم . فهم يعتقدون إن الطاعة التي أمر الله بها هي طاعة دينية لا طاعة سياسية دنيوية ، ولكون الإمام رجل دين لابد أن ينوب عنه رجل دين أيضاً ، لذلك فإن الشيعة ينكرون ما ذهب إليه السنّة بأن أولي الأمر المقصود به الحاكم أي حاكم  بَراً كان أو فاسقاً .

 

  إن القرآن الكريم قد تطرق إلى موضوع الطاعة وأولي الأمر في مواضع كثيرة ،  تثبت أنه لا طاعة للفاسق ، بل من يفعل ذلك فهو من الفاسقين ، لذلك فإن رأي أهل السنة بوجوب طاعة الحاكم الفاسق يخالف صريح آيات قرآنية . إن الآية الكريمة " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم "  تبدأ بالمخاطبة بـ  " يا أيها الذين آمنوا " ، وكون المخاطبة للمؤمنين فإن ولي الأمر المقصود لابد أن يكون مؤمناً وليس فاسقاً ، فالأمر بطاعة أولي الأمر موجها للمؤمنين ، وحيث أن الآية تقول " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " فإن كلمة " منكم " تعنى هنا مؤمنا منكم أي مثلكم ، وهي بمثابة دعوة من الله تعالى أن لا يطيع المؤمنون غير المؤمن مثلهم . فالله تعالى لم يأمر بطاعة الفاسق كما يعتقد علماء السنّة بل هي دعوة لطاعة إيمانية خالصة من المؤمن لولي أمره المؤمن . إن الله تعالى لا يأمر بالفساد فكيف يأمر بطاعة الفاسد ؟!

 إن الآية الكريمة تحدد نوعية الطاعة حينما ذكرت لفظ الجلالة أولاً ثم النبي (ص) ، وعليه دلت أنها طاعة دينية لا طاعة سياسية ، والربط بين الله تعالى ورسوله والحاكم الفاسق بوثاق ديني لا يتقبله العقل بل يقبحه العقل ، لقد دلت النصوص أن الفاسق يغضب الله عليه فكيف يمكن ربطه مع النبي (ص) والله عز وجل برباط شرعي ؟!  كيف يجب طاعة الحاكم الفاسق والله تعالى يقول " والله لا يهدي القوم الفاسقين " ؟! (24 التوبة) ، فإذا كان الله تعالى لا يهدي هذا الحاكم الفاسق فكيف يأمر بطاعته ؟! أليس مصير الحاكم الفاسق الضلال والضياع إن لم يهديه الله ؟! وبالتالي سيكون مصير الأمة كلها الضلال والضياع لكونهم تبعوا الفاسق .

 قال رسول الله (ص)  " سيكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون فمن صدقهم بكذبهم ووالاهم على ظلمهم فليس مني " ( مسند أحمد بن حنبل ج4 ص267) ، فالرسول يحذر من موالاة الحاكم الظالم . وقال الرسول (ص) " سيلي أموركم من بعدي رجال يُعَرِّفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون فلا طاعة لمن عصى الله " ( مسلم ج4 ص1871 ) . فالحاكم الفاسق الذي يعصي الله يستوجب عدم طاعته بموجب الحديث . ويقول الله تعالى " فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً " (24 الإنسان) فالفاسق آثم رفض الله طاعته . ويقول تعالى  " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله أولياء ثم لا تنصرون " (113 هود). فالفاسق الذي يرتكب الآثام إنما هو من الظالمين لأنه مستمر في ظلم نفسه ، والله تعالى يأمر عباده بأن لا يركنوا إلي الظالمين ، فمن أين استوجب طاعة الحاكم الفاسق ؟!!

 

  إن لفظ " أولي الأمر " المقصود به ذلك الأمير المؤمن التقي ، العالم بالدين ، العابد لله كما دلت عليه الآية " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " (55 المائدة) ، فذلك الذي استوجب الله طاعته وليس الحاكم الفاسق . إن السنّة بقولهم وجوب طاعة الحاكم الفاسق قد أضفوا الشرعية على تسلط الجبارين والمفسدين في الأرض على رقاب المسلمين وعلى ثرواتهم طوال فترات التاريخ الإسلامي الطويل . ومن حقنا أن نشك في مصداقية من قال بهذا الرأي ، فقد تكون وراء رأيه مصلحة . أو قد يكون تعرض لضغوطات من قبل السلطان . قال الإمام جعفر الصادق : الفقهاء أمناء الرسل فإذا رأيتم قد ركبوا إلى السلاطين فاتهموهم .

 

  إن الحاكم الفاسق من الطبيعي أن يشط عن حكم الله ولا يطبق الحدود ، وإلا طبقها على نفسه أولا لكونه فاسقا ارتكب الفسق واستحق تطبيق الحدود ، وقد يغض النظر كذلك عما يفعل الآخرون مثله ، فهو لن يقيم الحدود بل يعطل الأحكام الشرعية التي تدينه . فكيف يأمر الله بطاعته ؟! ثم الله تعالى يقول " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ( 44 المائدة ) ، وتفيد الآية أيضاً أن الناس الذين تبعوا هذا الحاكم الفاسق كفّار بدليل لفظ " أولئك هم الكافرون " فالآية بدأت بالمفرد أي بالحاكم " ومن لم يحكم " ثم بينت أن المصير جماعي " أولئك هم الكافرون " ، أي الحاكم والمحكومين . وللتوضيح قال تعالى " ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون " ( 81 المائدة ) ، فكيف يستوجب علماء السنّة الطاعة للحاكم الفاسق واعتبروا الخروج عليه خروج عن الدين ؟! " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " .

  سُئل أمير المؤمنين الإمام علي عن الطاعة فقال " إنما الطاعة لله عز وجل ولرسوله ولولاة الأمر وإنما أمر بطاعة أولي الأمر لأنهم معصومون مطهّرون لا يأمرون بالمعصية " . إن قول الإمام علي يوافق منطق الشريعة الإسلامية لأن طاعة الحاكم الفاسق يعارض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فبدلاً أن ينكر المسلمون على الحاكم الفاسق أفعاله ويأمرونه بالمعروف ، هو الذي يأمرهم وهم الذين يطيعونه !! إننا بحاجة لأن نتدبر الآيات القرآنية لنستدل على الأولياء الذين قصدهم الله تعالى وطلب بأن نطيعهم .

 لقد بيّن الله تعالى الأولياء الواجب طاعتهم في مواضع كثيرة ، فقال تعالى " اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء " (3 الأعراف) ، فهذه الآية تبدأ بكلمة " اتّبعوا " وهي فعل أمر لابد أن يكون موجه للمسلمين دون غيرهم ليتبعوا ما أنزل إليهم ، بدليل عبارة " من ربكم " والذي يدل على أن الله يخاطب المسلمين لأنهم يقرون بأن الله ربهم ، وأما غيرهم فلا يقرون ، وحيث أن الله ذكر في العبارة التالية " ولا تتبعوا من دونه أولياء " ، دل ذلك على أن المراد في قوله " ما أنزل إليكم من ربكم "  يتعلق بالأولياء ، ولو كان القصد يراد به ذاته سبحانه وتعالى لوجب أن تقول الآية أتبعوا ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ، لكنه تعالى ربط بين ما أنزله وبين الأولياء ، لذلك لابد أن يكون القصد في الآية بأن الله أمر المسلمين أن يتبعوا الولي الذي أختاره في الآيات التي أنزلها ولا يتبعوا أولياء دون الذي أختاره لهم . وقد جاءت العبارة بصيغة شاملة " اتّبعوا ما أنزل إليكم " للدلالة على الشمولية ، أي بعبارة أخرى أتبعوا ولي الله ومنهج الله أي الولي الذي لن يخرجكم من منهج الله ، ولا تتبعوا أولياء غيره أي دون من أختارهم الله تعالى لكم أيها المسلمون.

 

قال تعالى " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " (59 النساء) . وقال تعالى " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أن على رسولنا البلاغ المبين " (92 المائدة) ، ولو تدبّرنا الآيتين السابقتين نجد أنه قد تم رفع عبارة ( أولي الأمر ) في الآية الأولى ووضع بدلا منها ( واحذروا ) في الآية الثانية . وتكرر ذلك في قوله تعالى " وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون " (132 المائدة) حيث رفعت عبارة ( أولي الأمر ) ووضع بدلا منها ( لعلكم ترحمون ) . وكذلك قوله تعالى " أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه " (20 الأنفال) حيث رفعت عبارة ( أولي الأمر ) ووضع بدلا منها ( ولا تولوا عنه ) . ونفس الشيء في قوله تعالى " قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكاذبين " (32 آل عمران) . كذلك قوله تعالى " قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا " (54 النور) . كذلك " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم " (33 محمد) . كذلك " أطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين " (1 الأنفال) .

 لو تدبّرنا الآيات الكريمة السابقة نجد أنها استخدمت إشارات دقيقة وألفاظاً مختلفة في التعبير عن أولي الأمر . فبعد أن فرض الله تعالى الطاعة لله ورسوله وأولي الأمر نجد أن طاعة أولي الأمر في الآيات التالية جاءت بصورة عبارات توضيحية تفيد أهمية إتباع أولي الأمر . ففي آية (92 المائدة) وضعت كلمة ( واحذروا ) للإشارة في أخذ الحذر في أولي الأمر ، فالحذر من أن يكون غير الذي أراده الله . وفي الآية (54 النور) وضعت عبارة ( وأن تطيعوه تهتدوا ) للإشارة إلى أن طاعة الذي أراده الله هي الهداية . وفي الآية (33 محمد) وضعت عبارة ( ولا تبطلوا أعمالكم ) للإشارة إلى أن تركه سيبطل الأعمال ويؤكد ذلك قوله تعالى " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورا " لأنهم لم يتبعوا الولي الذي أراده الله . أما الآية (20 الأنفال) فقد وضعت عبارة ( ولا تولوا عنه ) للإشارة إلى أن لا يتولوا عن الولي الذي أراده الله . أما الآية (1 الأنفال) فوضعت عبارة  ( إن كنتم مؤمنين ) للإشارة إلى أن طاعة ولي الله إيمانية أي أنه لا إيمان من دون هذه الطاعة . وكأنما الآية تقول يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم إن كنتم مؤمنين ، فالطاعة التي أمر الله بها لأولي الأمر هي طاعة دينية إيمانية قدسية واجبة على المؤمنين ، لذلك لابد وأن يكون ذلك الولي من أولياء الله فأمر بطاعته وحذر من اتخاذ ولي غيره . ولابد أن يكون هؤلاء الأولي الأمر هم الأئمة الهداة من أهل البيت عليهم السلام الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا لكي لا يظلمون شيئا . فلأي سبب يا ترى يذهب الله الرجس عنهم ويطهّرهم غير أن يريدهم معصومين من الإثم ليقودوا الأمة وفق منهج الله تعالى ؟

قال الإمام علي : إنما الطاعة لله عز وجل ولرسوله ولولاة الأمر وإنما أمر بطاعة أولي الأمر لأنهم معصومون مطهّرون لا يأمرون بالمعصية .

 

 

الصفحة الرئيسية